[[ الترجمة ]] = Translation

الأحد، 3 مارس 2024

الجزء الثاني من الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب المجلد الثاني

 

ج2. الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب


المجلد الثاني

( ب ) : ثم المسجد النبوي لقوله : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام [ فإنه أفضل ] ) .
الحديث ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم :
( 1 ) منهم أبو هريرة وله عنه طرق كثيرة :
1 - عن أبي عبد الله الأغر - واسمه سلمان - عنه .
أخرجه البخاري ( 3/51 ) ومسلم ( 4/124 ) والنسائي ( 1/113 و2/34 ) والترمذي ( 2/147 ) وصححه والدارمي ( 1/330 ) وابن ماجه ( 1/428 ) وكذا مالك ( 1/201 ) والطحاوي ( 2/73 ) وأحمد ( 2/256 و386 و468 و473 و485 ) من طرق عنه . ورواه الخطيب في ( تاريخه ) ( 14/145 ) .
2 - عن سعيد بن المسيب عنه .
أخرجه مسلم والدارمي وابن ماجه والطحاوي وأحمد ( 2/239 ) عن االزهري عنه . وكذلك أخرجه الخطيب ( 9/222 ) .
3 - عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ عنه .
رواه مسلم والنسائي والطحاوي وأحمد ( 2/251 و473 ) من طرق عنه وزاد مسلم والنسائي :
( فإني آخر الأنبياء وإن مسجدي آخر المساجد ) .
4 - عن محمد بن هلال عن أبيه عنه .
أخرجه الطحاوي وأحمد ( 2/499 ) من طريقين عنه .
وهذا سند حسن في المتابعات محمد بن هلال وأبوه وثقهما ابن حبان .
5 - عن ابن إسحاق قال : ثني خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب الأنصاري عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبي هريرة مرفوعا .
رواه أحمد ( 2/397 ) .
وهذا إسناد حسن أو صحيح رجاله رجال الستة غير ابن إسحاق وهو ثقة وقد صرح بالتحديث .
6 - عن سفيان عن صالح مولى التوأمة عنه .
أخرجه أحمد ( 2/466 و484 ) .
وسنده حسن أيضا في المتابعات .
7 - عن حسان بن غالب قال : ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة عن نافع عن أبي هريرة مرفوعا .
أخرجه الطحاوي . ورجاله ثقات غير حسان هذا فهو ضعيف والمعروف من حديث نافع عن ابن عمر كما يأتي قريبا .
8 - عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عنه .
أخرجه الترمذي ( 2/326 - طبع بولاق ) بسند حسن .
( 2 ) ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وله عنه طريقان :
1 - عن عبيد الله بن عمر عن نافع عنه .
أخرجه مسلم والدارمي وابن ماجه وأحمد ( 2/16 و52 و101 - 102 ) والخطيب ( 4/162 ) من طرق عنه .
وقد فاتت هذه الطريق عن نافع على الإمام النسائي فقد أخرجه ( 2/34 ) وكذا مسلم والطحاوي وأحمد ( 2/53 - 54 ) من طريق موسى بن عبد الله الجهني عن نافع به . ثم قال النسائي :
( لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر غير موسى الجهني وخالفه ابن جريج وغيره ) .
ثم ساقه من طريقه عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة مرفوعا به . وسيأتي بعد هذا .
ونحن نقول : إن لنافع فيه إسنادين وكل منهما صحيح :
الأول : عن ابن عمر كما رواه موسى الجهني وتابعه عبيد الله بن عمر الثقة الثبت كما في الرواية الأولى وتابعه أيضا أخوه عبد الله بن عمر عند الطيالسي ( ص 251 رقم 1826 ) وأحمد ( 2/68 ) .
والثاني : رواية ابن جريج عنه . وتأتي .
2 - عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر به . والزيادة له .
أخرجه أحمد ( 2/29 و155 ) .
وهذا سند صحيح على شرط مسلم . ولعطاء فيه إسنادان آخران :
أحدهما : عن جابر .
والآخر : عن ابن الزبير . وفيه يدل هذه الزيادة قوله :
( وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا ) .
يعني : مسجد المدينة . وقد سبق تخريجه .
( تنبيه ) : قال الحافظ في ( الفتح ) ( 3/52 ) :
( وللنسائي من رواية موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر كلفظ أبي هريرة وفي آخره : إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بمائة صلاة ) .
قلت : وهذه الزيادة ليست في النسائي بل ليست في شيء من الطرق المتقدمة ولعلها في ( سنن النسائي الكبرى ) . والله أعلم .
( 3 ) ومنهم ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم :
رواه ابن جريج قال : سمعت نافعا يقول ثنا إبراهيم بن عبد الله بن معبد أن ابن عباس حدث عنها به .
أخرجه النسائي ( 2/34 ) والطحاوي وأحمد ( 6/334 ) .
وتابعه الليث بن سعد : ثني نافع به .
أخرجه مسلم ( 4/125 - 126 ) والطحاوي وأحمد .
وفي حديثه قصة عند مسلم عن ابن عباس أنه قال :
( أن امرأة اشتكت شكوى فقالت : إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها فأخبرتها ذلك فقالت : اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول . . . فذكرت الحديث .
( 4 ) ومنهم أبو سعيد الخدري :
رواه جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن سهم بن منجاب عن قزعة عنه قال : ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقال له : أين تريد ؟ قال : أريد بيت المقدس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم . . . فذكره .
أخرجه أحمد ( 3/77 ) والسياق له والطحاوي ( 2/72 ) .
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
وقد أورده الهيثمي في ( المجمع ) ( 4/6 ) بلفظ :
( مائة ) بدل : ( ألف ) وقال :
( رواه أبو يعلى والبزار بنحوه إلا أنه قال : أفضل من ألف صلاة . ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ) .
( 5 ) ومنهم سعد بن أبي وقاص .
رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي عبد الله القراظ عنه .
أخرجه أحمد ( 1/184 ) .
وهذا سند حسن لولا أني لم أعرف أبا عبد الله القراظ وفي الكنى من ( الميزان ) : ( أبو عبد الله القزاز عن سالم بن عبد الله وعنه الدراوردي : مجهول ) .
فقد يكون هو هذا 40 . وفي ( المجمع ) ( 4/5 ) :
( رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف ) .
قلت : ولم ينفرد به فقد رواه الطحاوي ( 2/72 ) من طريق حسان بن غالب قال : ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة : ثني أبو عبد الله به .
لكن حسان هذا ضعيف كما سبق .
وله عنده طريق أخرى أخرجه عن شعبة عن أبي عبد العزيز الزبيدي عن عمرو بن الحكم عن سعد مرفوعا .
ورجاله ثقات كلهم غير أبي عبد العزيز الزبيدي فلم أعرفه .
ثم رجعت إلى قسم الكنى من كتاب ( كشف الأستار عن رجال معاني الآثار ) وإذا فيه :
( أبو عبد العزيز الربذي - بفتح الراء والموحدة ثم معجمة - هو موسى بن عبيدة - بضم أوله - ضعيف ) .
فتبين أن ما في الأصل : الزبيدي . تصحيف والصواب : الربذي .
وكذلك وقع فيه : عمرو بن الحكم والصواب : عمر . بضم المهملة وبدون الواو .
ولموسى بن عبيدة إسناد أخر وهو :
( 6 ) ومنهم عائشة رضي الله عنها وله طريقان :
1 - عن موسى بن عبيدة عن داود بن مدرك عن عروة عنها .
وموسى ضعيف كما سبق .
وشيخه داود بن مدرك مجهول كما في ( التقريب ) .
2 - عن ابن جريج : أخبرني عطاء أن أبا سلمة أخبره عن أبي هريرة وعائشة مرفوعا .
وهذا سند صحيح على شرط الستة .
أخرجه أحمد ( 2/278 ) .
( 7 ) ومنهم جبير بن معطم :
رواه حصين بن عبد الرحمن عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن جبير بن مطعم مرفوعا .
ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين محمد بن طلحة وجبير بن مطعم .
أخرجه الطيالسي ( ص 128 رقم 950 ) وأحمد ( 4/80 ) .
وقد ورد موصولا فقال الهيثمي ( 4/5 ) :
( رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في ( الكبير ) وإسناد الثلاثة - كذا - مرسل وله في الطبراني إسناد رجاله رجال الصحيح وهو متصل ) .
هذا وقد روي أن الصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام بخمسين ألف صلاة . ولا يصح كما سيأتي بيانه في خاتمة الكلام في مسجد قباء .
( فائدة ) : قد علم أن مسجده عليه الصلاة والسلام قد زيد فيه عما كان عليه في عهده صلى الله عليه وسلم فقد كان طوله كعرضه مائة ذراع في مائة وقيل : سبعين في ستين . ثم زاد فيه عثمان فصار طوله مائة وستين ذراعا وعرضه مائة وخمسين ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمه مائتين وفي مؤخره مائة وثمانين . ثم زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشام فقط دون الجهات الثلاث ولم يزد بعده أحد شيئا كما في ( شد الأثواب في سد الأبواب ) للسيوطي ( ص 175 - 167 ) من ( الحاوي للفتاوي ) له ( ج 2 ) .
إذا عرفت ذلك وعرفت ما في الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم من الفضل الوارد في الأحاديث السابقة فهل يشمل ذلك تلك الزيادات الكثيرة التي هي ضعف المسجد النبوي تقريبا ؟
أما النووي فأجاب بالنفي حيث قال في ( شرح مسلم ) :
( واعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده فينبغي أن يحرص المصلي على ذلك ويتفطن لما ذكرته ) .
وزاد في ( المجموع بعد أن ذكر هذا المعنى فقال : ( 8/277 ) :
( لكن إن صلى في جماعة فالتقدم إلى الصف الأول ثم ما يليه أفضل فليتفطن لهذا ) .
وخالفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذكر أن حكم الزيادة في مسجده عليه الصلاة والسلام حكم المزيد في كلام قوي متين كعادته رحمه الله فقال :
( وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد تضعف فيه الصلاة بألف صلاة كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد فيجوز الطواف فيه والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجا منه . ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك . قال أبو زيد ( عمر بن شبة النميري في كتاب ( أخبار المدينة ) : ثني محمد بن يحيى : ثني من أثق به أن عمر زاد في المسجد من القبلة إلى موضع المقصورة التي هي به اليوم . قال : فأما الذي لا يشك فيه أهل بلدنا أن عثمان هو الذي وضع القبلة في موضعها اليوم ثم لم تغير بعد ذلك . قال أبو زيد : ثنا محمد بن يحيى عن محمد عن عثمان ( كذا ولعله : محمد بن عثمان ) عن مصعب بن ثابت عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو في مصلاه يوما - : لو زدنا في مسجدنا . وأشار بيده نحو القبلة . ثنا محمد بن يحيى عن محمد بن إسماعيل عن ابن أبي ذئب قال : قال عمر : لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه . ثنا محمد بن يحيى عن سعد بن سعيد عن أخيه عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي ) . فكان أبو هريرة يقول : والله لو مد هذا المسجد إلى داري ما عدوت أن أصلي فيه . ثنا محمد : ثنا عبد العزيز بن عمران عن فليح بن سليمان عن ابن عمرة قال : زاد عمر في المسجد في شاميه ثم قال : لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال شيخ الإسلام :
( وهذا الذي جاءت به الآثار هو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم فإنهم قالوا : إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان فإن كليهما زاد من قبلي المسجد فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده وما بلغني عن أحد من المسلمين خلاف هذا لكن رأيت بعض المتأخرين ( كأنه يريد النووي ) قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده وما علمت لمن ذكر ذلك سلفا من العلماء قال : وهذه الأمور نبهنا عليها ههنا فإنه يحتاج إلى معرفتها وأكثر الناس لا يعرفون الأمر كيف كان ولا حكم الله ورسوله في كثير من ذلك ) .
هذا آخر كلام شيخ الإسلام رحمه الله فيما نقله الحافظ ابن عبد الهادي عنه في كتابه ( الصارم المنكي ) ( ص 139 - 140 ) .
وحديث أبي هريرة المرفوع الذي رواه عمر بن شبة إسناده ضعيف فإن سعد بن سعيد المقبري لين الحديث وأخوه عبد الله متروك كما في ( التقريب ) . وقد أورده السيوطي في ( الجامع ) وقال 41 :
( رواه الزبير بن بكار في ( أخبار المدينة ) عن أبي هريرة ولم يرمز له في نسختنا بشيء ولا تعرض الشارح لذلك وإنما قال : ظاهر كلام المصنف أنه لم يره مخرجا لأحد من المشاهير وهو عجب فقد خرجه الديلمي باللفظ المذكور وكذا الطيالسي ) .
قلت : إن كان يعني أنه في ( مسند الطيالسي ) من حديث أبي هريرة فقد راجعته ولم أجده في مسنده . والله أعلم .
( وقال : ( أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ) .
الحديث هو من رواية عائشة وله تتمة وقد سبق ذكره بكامله في الكلام على المسجد الحرام ونقلنا هناك أن فيه موسى بن عبيدة وأنه ضعيف لكن حديثه هذا قد جاء من غير طريقه بإسناد صحيح بلفظ :
( فإني آخر الأنبياء وإن مسجدي آخر المساجد ) .
رواه مسلم والنسائي . وقد سبق .
كما أن التتمة التي أشرنا إليها لها شواهد كثيرة سبق ذكرها هناك فدل هذا كله على أن موسى بن عبيدة قد حفظ هذا الذي رواه ولعله من أجل ما ذكرنا أورده المنذري في ( الترغيب ) ( 2/136 ) فقال :
( وروى البزار عن عائشة ) .
فذكر الحديث . ولم يضعفه كما هي عادته .
( ومن فضائله قوله : ( من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره ) .
أخرجه ابن ماجه ( 1/100 - 101 ) والحاكم ( 1/91 ) وأحمد ( 2/418 و526 ) عن أبي صخر حميد بن صخر الخراط أن سعيدا المقبري أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول . . . فذكره . قال الحكم :
( صحيح على شرط الشيخين ) . ووافقه الذهبي .
وإنما هو على شرط مسلم وحده فإن حميد بن صخر - ويقال : ابن زياد - لم يرو له البخاري في ( صحيحه ) بل روى له في ( الأدب المفرد ) ولذلك قال في ( الزوائد ) :
( إسناده صحيح على شرط مسلم . وقول الحافظ ثم فيه على شرط الشيخين غلط فإن البخاري لم يحتج بحميد بن صخر ولا أخرج له في ( صحيحه ) وإنما أخرج له في ( الأدب المفرد ) وإنما احتج به مسلم ) .
قلت : وكذلك غلط الشوكاني حيث قال ( 2/132 ) :
( وحميد بن صخر هو حميد الطويل الإمام الكبير ) .
فإن حميدا الطويل غير هذا وهو حميد بن أبي حميد أبو عبيدة الطويل وهو أعلى طبقة من هذا .
والحديث أورده المنذري في ( الترغيب ) ( 1/62 ) وقال :
( رواه ابن ماجه والبيهقي وليس في إسناده من ترك ولا أجمع على ضعفه ) .
قوله : ( مسجدي هذا ) . قال الشوكاني :
( فيه تصريح بأن الأجر المترتب على الدخول إنما يحصل لمن كان في مسجده صلى الله عليه وسلم ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة لأنه قياس مع الفارق . قوله : ومن دخل لغير ذلك . . . إلخ . ظاهره أن كل ما ليس فيه تعليم ولا تعلم من أنواع الخير لا يجوز فعله في المسجد ولا بد من تقييده بما عدا الصلاة والذكر والاعتكاف ونحوها مما ورد فعله في المسجد أو الإرشاد إلى فعله في المسجد ) .
( وقوله : ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) .
الحديث ورد عن جمع من الصحابة ولذلك قال السيوطي في نقله المناوي :
( هذا حديث متواتر ) .
ونحن نسوق هنا أحاديث من وقفنا على أسانيدهم :
الأول : عبد الله بن زيد المازني .
أخرجه البخاري ( 3/54 ) ومسلم ( 4/123 ) ومالك ( 1/202 ) والنسائي ( 1/113 ) وأحمد ( 4/39 و40 ) من طرق عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد ابن تميم عنه .
ثم رواه أحمد ( 4/40 - 41 ) من طريق فليح عن عبد الله بن أبي بكر به بلفظ :
( ما بين البيوت - يعني : بيوته - إلى منبري . . . ) والباقي مثله وزاد :
( والمنبر على ترعة من ترعة الجنة ) .
وفليح - وهو ابن سليمان - وإن كان قد احتج به الشيخان فإن في حفظه ضعفا وقد تفرد بهذا اللفظ ولم يوافقه عليه أحد كما سترى .
الثاني : أبو هريرة :
عند البخاري ( 3/54 و4/79 و11/401 ) وأحمد ( 2/376 و438 ) من طريق عبيد الله بن عمر قال : ثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عنه مرفوعا به وفيه الزيادة بلفظ :
( ومنبري على حوضي ) .
رواه مالك ( 1/202 ) عن خبيب به إلا أنه قال : عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري . هكذا على الشك .
وكذلك رواه أحمد ( 2/465 و533 ) عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك به . قال ابن عبد البر :
( هكذا رواه رواة ( الموطأ ) على الشك إلا معن بن عيسى وروح بن عبادة فإنهما قالا فيه : عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا على الجمع لا على الشك . ورواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك فقال : عن أبي هريرة وحده ولم يذكر أبا سعيد ) .
قلت : رواية عبد الرحمن هذه عن أبي هريرة وحده أخرجها البخاري ( 13/263 ) عن عمرو بن علي : ثنا عبد الرحمن به 42 .
وخالفه أحمد فقال : عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أو أبي سعيد كما سبق .
وبالجملة فالرواية عن مالك عن خبيب مضطربة والصواب عن خبيب عن حفص عن أبي هريرة كما رواه عبيد الله بن عمر .
وتابعه جماعة منهم أخوه عبد الله بن عمر العمري عند أحمد ( 2/401 ) ومحمد بن إسحاق عنده أيضا ( 2/397 و528 ) وشعبة عند الطبراني في ( الصغير ) ( ص 230 ) .
على أنه يبدو أن للحديث أصلا من رواية أبي سعيد الخدري وهو الآتي .
وله طرق أخرى عن أبي هريرة :
منها عن حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعا .
وهذا سند صحيح على شرط مسلم .
وأخرجه أحمد ( 2/412 و534 ) .
ومنها عن عبد الله عن أبي الزناد وعن الأعرج عنه .
ورجاله موثقون .
أخرجه أحمد أيضا ( 2/401 ) .
ومنها عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عنه .
أخرجه الترمذي ( 2/326 طبع بولاق ) وسكت عليه .
وسنده حسن رجاله ثقات غير كثير بن زيد وهو صدوق فيه لين كما قال أبو زرعة وفي ( التقريب ) :
( صدوق يخطيء ) .
ومنها الآتي :
الثالث : علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
عند الترمذي ( 2/326 ) من طريق سلمة بن وردان عن أبي سعيد بن المعلى عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة معا . وقال :
( حديث حسن ) .
وهو كما قال .
الرابع : جابر بن عبد الله .
أخرجه أحمد ( 3/389 ) : ثنا سريج : ثنا هشيم : أنا علي بن زيد عن محمد بن المنكدر عنه مرفوعا .
وهذا سند حسن رجاله رجال الشيخين غير علي بن زيد وهو ابن جدعان وهو حسن الحديث في المتابعات .
وأخرجه الخطيب ( 3/360 ) من طريق محمد بن هشام المروزي : ثنا هشيم به وقال :
( ولم يروه عن هشيم غيره فيما قيل ) .
قلت : ويرده رواية أحمد هذه فإنها من طريق سريج عنه .
والحديث قال في ( المجمع ) ( 4/8 - 9 ) :
( رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه علي بن زيد وفيه كلام وقد وثق ) .
قلت : وله عند الخطيب طريقان آخران :
الأول : أخرجه ( 11/228 ) عن عمر بن إبراهيم بن القاسم بن بشار أبي حفص البغدادي : ثنا أبو عبد الله محمد بن حفص بن عمر إملاء : ثنا محمد ابن كثير الكوفي : ثنا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر به .
وهذا سند ضعيف .
وعمر هذا ترجمه الخطيب ولم يحك فيه جرحا ولا تعديلا .
ومحمد بن حفص بن عمر أبو عبد الله الظاهر أنه الذي في الميزان :
( محمد بن حفص الطالقاني نزيل مصر أبو عبد الله قال الدارقطني : ضعيف ) .
وبقية رجال الإسناد ثقات .
والطريق الآخر : رواه ( 11/390 ) عن محمد بن يونس الكديمي : ثنا عبد الله بن يونس بن عبيد : ثني أبي عن محمد بن المنكدر عن جابر .
والكديمي هذا أحد المتروكين كما قال الذهبي .
ثم استدركت فقلت : هذا ليس طريقا ثالثا وإنما هو متابع لعلي بن زيد عن محمد بن المنكدر وهو الطريق الأول .
الخامس : سعد بن أبي وقاص .
أخرجه الخطيب ( 11/290 ) عن إسحاق بن محمد الفروي قال : ثتنا عبيدة بن نائل عن عائشة بنت سعد عن أبيها .
وهذا إسناد حسن رجاله كلهم موثقون . وقال الهيثمي ( 4/9 ) :
( رواه البزار والطبراني في ( الكبير ) ورجاله ثقات ) . وقال الحافظ في ( الفتح ) ( 4/79 ) :
( رجاله ثقات ) .
السادس : عبد الله بن عمر .
أخرجه الخطيب أيضا ( 12/160 ) عن أبي الفضل العباس بن محمد بن أحمد بن تميم الأنماطي : ثنا موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري : ثنا أحمد ابن يحيى بن المنذر بن عبد الرحمن : ثنا مالك بن أنس عن نافع عنه .
وهذا إسناد مجهول عندي لم أعرف منه غير مالك بن أنس ونافع لكن قال الهيثمي :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) و( الأوسط ) ورجاله ثقات ) .
وقد روي عن ابن عمر عن أبي سعيد وهو :
السابع : أبو سعيد الخدري .
أخرجه الخطيب ( 4/403 ) من طريق أحمد بن محمد بن جهور : ثنا عفان : ثنا عبد الواحد بن زياد : ثنا إسحاق بن شرقي مولى ابن عمر قال : ثني أبو بكر بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال : ثني أبو سعيد الخدري مرفوعا به .
أورده في ترجمة ابن جهور هذا ولم يذكر فيه جرحا ولا توثيقا .
وإسحاق بن شرقي لم أجد له ترجمة . لكن قال الهيثمي :
( رواه الطبراني في ( الأوسط ) وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى ) .
قلت : وقد أخرجه أحمد ( 3/4 ) : ثنا روح : ثنا مالك بن أنس عن خبيب ابن عبد الرحمن أن حفص بن عاصم أخبره عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا به .
وهذا إسناد رجاله رجال الشيخين لكن اختلف فيه على مالك كما سبق بيانه وأن الصواب فيه عن أبي هريرة وحده 43 .
وفي الباب عن أبي بكر الصديق والزبير بن العوام وأنس بن مالك . انظر تخريجها إن شئت في ( مجمع الزوائد ) .
واعلم أنه وقع في رواية ابن عساكر لحديث البخاري عن أبي هريرة بلفظ :
( قبري ) بدل : ( بيتي ) . قال الحافظ :
( وهو خطأ ) .
وكذلك وقع في بعض الروايات المتقدمة عند الخطيب وغيره بلفظ :
( قبري ) .
ولا نشك أنه رواية بالمعنى كما ذهب إلى ذلك القرطبي 44 وغيره . وقد بين وجه ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال في ( القاعدة الجليلة ) ( ص 58 ) :
( وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعد صلوات الله وسلامه عليه ولهذا لم يحتج به أحد من الصحابة حينما تنازعوا في موضع دفنه ولو كان هذا عندهم لكان نصا في محل النزاع ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه - بأبي هو وأمي - صلوات الله وسلامه عليه ) .
ثم اعلم أن ( المراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها أو أنه على المجاز لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة . وهذا فيه نظر إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها . وقيل : فيه تشبيه محذوف الأداة أي : هو كروضة لأن من يقعد فيها من الملائكة ومؤمني الإنس والجن يكثرون الذكر وسائر أنواع العبادة ) . كذا في ( الفتح ) ( 11/401 - 402 ) .
وهل المراد بالبيت جميع البيوت التي كانت لأزواجه عليهن السلام أو المراد بيت واحد منها وهو بيت عائشة الذي صار قبره فيه ؟ الظاهر الثاني ويدل عليه أنه الذي فهمه السلف الذين رووا الحديث بلفظ : ( قبري ) بدل ( بيتي ) كما سلف إشارة إلى أن المراد بالبيت البيت الذي فيه قبره وإلى هذا مال الحافظ في ( الفتح ) حيث قال بعد أن حكم بخطأ رواية ابن عساكر المتقدمة :
( نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ : القبر فعلى هذا المراد بالبيت في قوله : بيتي . أحد بيوته لا كلها وهو بيت عائشة الذي صار قبره فيه وقد ورد الحديث بلفظ : ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة . أخرجه الطبراني في ( الأوسط ) .
قلت : وهو من حديث أبي سعيد الخدري وقد حسنه الهيثمي كما سبق . والله تعالى أعلم .
( وهو المسجد الذي أسس على التقوى كمسجد قباء قال أبو سعيد الخدري :
( قلت يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى ؟ فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض قال :
( هو هذا مسجد المدينة [ وفي ذاك خير كثير ] ) .
الحديث له عنه طرق :
1 - عن يحيى بن سعيد عن حميد الخراط قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال : مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري فقلت له : كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال : قال أبي : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت . . . الحديث .
أخرجه أحمد ( 3/24 ) ومسلم ( 4/126 ) عنه .
وأخرجه النسائي ( 1/113 ) والترمذي ( 2/185 طبع بولاق ) وأحمد ( 3/8/89 ) عن ليث بن سعد عن عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد الخدري أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل : هو مسجد قباء وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هو مسجدي هذا ) . وقال الترمذي :
( حديث حسن صحيح ) .
ورواه الحاكم ( 2/334 ) من طريق أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه أنه قال : المسجد الذي أسس على التقوى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هكذا رواه أسامة موقوفا وهو ضعيف في حفظه .
2 - عن أنيس بن أبي يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري نحو حديث الليث وفيه الزيادة بين القوسين .
أخرجه الترمذي ( 2/144 - 145 ) والحاكم ( 1/487 ) وأحمد ( 3/23 و91 ) وقال الترمذي :
( حديث حسن صحيح ) وقال الحاكم :
( صحيح على شرط مسلم ) . ووافقه الذهبي .
وليس كما قالا وإنما صحيح فقط ليس على شرط مسلم فإنه لم يخرج لأنيس بن أبي يحيى ولا لأبيه شيئا وهما ثقتان .
وقد تابعه أخوه محمد بن أبي يحيى عن أبيه .
أخرجه الحاكم ( 2/334 ) وصححه وقال الذهبي :
( إسناده جيد ) .
وللحديث شاهد من رواية سهل بن سعد قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما : هو مسجد الرسول وقال الآخر : هو مسجد قباء . فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال : ( هو مسجدي هذا ) .
أخرجه أحمد ( 5/331 ) : ثنا وكيع : ثنا ربيعة بن عثمان التيمي عن عمران بن أبي أنس عنه .
وهذا سند صحيح على شرط مسلم .
ورواه ابن حبان في ( صحيحه ) كما في ( الترغيب ) ( 2/137 ) .
وقد تابعه عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران به .
أخرجه أحمد ( 5/335 ) .
وعبد الله هذا ضعيف كما في ( المجمع ) ( 4/10 ) و( التقريب ) . وقد اضطرب فيه فمرة يجعله من مسند سهل بن سعد كما في هذه الرواية ومرة يجعله من مسند أبي بن كعب .
كما رواه أحمد ( 5/116 ) والحاكم ( 2/334 ) عن أبي نعيم الفضل بن دكين : ثنا عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب مختصرا .
ومن الغريب قول الحاكم فيه :
( هذا صحيح الإسناد ) .
وأغرب منه موافقة الذهبي له على التصحيح مع أنه ترجم لعبد الله بن عامر بالضعف الذي لا توثيق معه
قال النووي في ( شرح مسلم ) :
( هذا نص بأنه المسجد الذي أسس على التقوى المذكور في القرآن ورد لما يقوله بعض المفسرين أنه مسجد قباء وأما أخذه صلى الله عليه وسلم الحصباء وضربه في الأرض فالمراد به المبالغة في الإيضاح لبيان أنه مسجد المدينة ) .
قلت : ظاهر الآية التي أشار إليها النووي رحمه الله وهو قوله تعالى في سورة التوبة : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } [ التوبة/108 ] يفيد أن المراد مسجد قباء لأن في الآية ضميرين يرجعان إلى مضمر واحد بغير نزاع وضمير الظرف الذي يقتضي الرجال المتطهرين هو مسجد قباء فهو الذي أسس على التقوى والدليل على هذا سبب نزول الآية . وهو ما أخرجه أحمد ( 3/422 ) من طريق أبي أويس : ثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة الأنصاري أنه حدثه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال :
( إن الله تبارك وتعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ ) .
قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا .
وهذا إسناد حسن . ورواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) كما في تفسير ابن كثير ) ( 2/389 ) .
وله شاهد بإسناد حسن أيضا كما في ( نصب الراية ) ( 1/219 ) من حديث أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك .
أخرجه ابن ماجه ( 1/146 ) والحاكم ( 2/334 - 335 ) وقال :
( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي .
وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس ومحمد بن عبد الله بن سلام وغيرهم . وقد سبق إن شاء الله تعالى ذكر أحاديثهم في أول الكتاب .
وقد زعم الحافظ في ( الفتح ) ( 7/195 ) أن حديث أبي هريرة المشار إليه إسناده صحيح عند أبي داود . وذلك غير صحيح فإنه عنده ( 1/8 ) كغيره من طريق يونس بن الحارث وهو ضعيف كما قال الحافظ نفسه في ( التقريب ) وكذلك قال ابن كثير .
وكذلك وهم ابن العربي في ( تفسيره ) ( 1/415 ) حيث قال :
( هذا حديث لم يصح ) .
فإنه صحيح بمجموع طرقه وإن كان هو أشار إلى حديث أبي هريرة فكان عليه أن يجمع إليه شواهده التي ذكرنا بعضها وأشرنا إلى الأخرى فحينئذ لا يجوز أن يقول ما قال .
إذا علمت ما تقدم أن ظاهر الآية وسبب النزول يفيد أنه مسجد قباء وأن الحديث بخلاف ذلك يفيد أنه المسجد النبوي فلا بد من التوفيق بينهما فقال ابن كثير :
( ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ) .
وكأنه من كلام شيخه ابن تيمية رحمه الله فقد قال في ( تفسير سورة الإخلاص ) ( ص 172 ) :
( قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في ( الصحيحين ) أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا وذلك لأن الله أنزل عليه : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } وكان مسجده هو الأحق بهذا الوصف . وقد ثبت في ( الصحيح ) أنه سئل عن المسجد المؤسس على التقوى فقال : ( هو مسجدي هذا ) يريد أنه أكمل في هذا الوصف من مسجد قباء ومسجد قباء أيضا أسس على التقوى وبسببه ( كذا ) الآية ولهذا قال : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } وكان أهل قباء مع الوضوء والغسل يستنجون بالماء وتعلموا ذلك من جيرانهم اليهود ولم تكن العرب تفعل ذلك فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يظن ظان ذاك الذي أسس على التقوى دون مسجده فذكر مسجده أحق بأن يكون هو المؤسس على التقوى فقوله : { لمسجد أسس على التقوى } [ التوبة/108 ] يتناول مسجده ومسجد قباء ويتناول كل مسجد أسس على التقوى بخلاف مساجد الضرار ) .
وقد ذهب إلى هذا الجمع الحافظ ابن حجر ونقل نحوه عن الداودي والسهيلي وغيرهما وهو الحق الذي يجب المصير إليه لأن خلافه يلزم منه إما رد ما أفاده القرآن من أجل الحديث أو العكس وكل من الأمرين خطأ بل ضلال وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه ) .
وسيأتي ما يدل على أنه مسجد قباء زيادة عما تقدم :
( ج ) : ثم المسجد الأقصى قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده . . . } الآية وقال عليه الصلاة والسلام :
( ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه قيل : أرأيت من لم يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه ؟ قال : فليهد إليه زيتا يسرج فيه فإن من أهدى له كمن صلى فيه ) .
الحديث من رواية ميمونة بنت سعد رضي الله عنها مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت : يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس . فقال : ( أرض المنشر والمحشر ائتوه . . . ) إلخ .
أخرجه أحمد ( 6/463 ) وابن ماجه ( 1/429 - 430 ) من طريق عيسى ابن يونس قال : ثنا ثور عن زياد بن أبي سودة عن أخيه عثمان بن أبي سودة عنها .
وهذا سند حسن أو صحيح رجاله ثقات رجال البخاري غير زياد بن أبي سودة وأخيه عثمان وهما ثقتان كما في ( التقريب ) وقد وثقهما ابن حبان وغيره وروى عن كل منهما جماعة من الثقات .
وقد أورده الهيثمي ( 4/6 - 7 ) من طريق أبي يعلى وقال :
( ورجاله ثقات ) .
وأما الذهبي فخالف حيث قال في ترجمة عثمان بن أبي سودة :
( وثقة مروان الطاهري - كذا ولعل الصواب : الطاطري - وابن حبان . قلت : في النفس شيء من الاحتجاج به ) .
وقال في ترجمة أخيه زياد - وقد ساق له هذا الحديث - :
( هذا حديث منكر جدا . قال عبد الحق : ليس هذا الحديث بقوي وقال ابن القطان : زياد وعثمان ممن يجب التوقف عن روايتهما ) .
كذا قالوا ولم يذكروا حجتهم فيما إليه ذهبوا ولم أجد لهم في ذلك سلفا من المتقدمين من أهل الجرح والتعديل وقد علمت مما أوردنا أنهما ثقتان عند ابن حبان وغيره من المتقدمين والمتأخرين كالحافظ ابن حجر وشيخه الهيثمي وغيرهما ممن يأتي ولم يظهر لي وجه الحكم بالنكارة التي جزم بها عند ابن حبان وغيره من المتقدمين والمتأخرين كالحافظ ابن حجر وشيخه الذهبي ولذلك كله فإني أذهب_ بعد أن استخرت الله تعالى - إلى أن الحديث قوي ثابت وأن من جرحه لا حجة معه .
نعم قد رواه بعضهم فأعله فأخرجه أبو داود ( 1/75 ) ومن طريقه البيهقي ( 2/441 ) عن سعيد بن عبد العزيز عن زياد بن أبي سودة عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت . . . الحديث مختصرا وليس فيه أن الصلاة فيه كألف - وسيأتي لفظه في ( آداب المساجد ) - فأسقط سعيد بن عبد العزيز من الإسناد عثمان بن أبي سودة فصار بذلك منقطعا لكن سعيد بن عبد العزيز وإن كان ثقة إماما فقد كان اختلط في آخر عمره فهو غير حجة إذا خالف كما في هذه الرواية فإن ثورا - وهو ابن يزيد الحمصي - ثقة ثبت كما في ( التقريب ) وفي ( الخلاصة ) :
( أحد الأثبات ) .
وقد وصله بذكر عثمان فيه وهي زيادة منه مقبولة حتى ولو كان مخالفه نده ومثيله كيف وقد علمت حاله كيف وقد خالفه أيضا معاوية بن صالح فرواه موصولا كرواية ثور بن يزيد كما ذكر الحافظ في ( الإصابة ) ولذلك قال التركماني في ( الجوهر النقي ) :
( قلت : الحديث ليس بقوي كذا قال عبد الحق في ( أحكامه ) وكأن الحامل له على ذلك الاختلاف في إسناده فإن أبا داود أخرجه كما ذكره البيهقي وأخرجه ابن ماجه من حديث ثور بن يزيد عن زياد بن أبي سودة عن أخيه عثمان بن أبي سودة عن ميمونة ) . ولهذا قال صاحب ( الكمال ) :
( روى زياد عن ميمونة وعن أخيه عنها وهو الصحيح ) . ولذلك قال في ( الزوائد ) :
( روى أبو داود بعضه وإسناد طريق ابن ماجه صحيح ورجاله ثقات وهو أصح من طريق أبي داود فإن بين زياد بن أبي سودة وميمونة عثمان بن أبي سودة كما صرح به ابن ماجة في طريقه كما ذكره صلاح الدين في ( المراسيل ) وقد ترك في أبي داود ) .
وبعد كتابة ما تقدم رجعت إلى ( المجموع ) للنووي وإذا به ذهب أيضا إلى تقوية الحديث حيث قال : ( 8/278 ) ما مختصره :
( رواه أحمد في ( مسنده ) بهذا اللفظ ورواه به أيضا ابن ماجه بإسناد لا بأس به ورواه أبو داود مختصرا بإسناد حسن ) .
كذا قال وإسناد أبي داود فيه الانقطاع كما سبق فكيف يكون حسنا ؟ ثم قال النووي :
( أجمع العلماء على استحباب زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه وعلى فضله قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } [ الإسراء/1 ] ) .
ثم ذكر حديث شد الرحال ويأتي وهذا الحديث والذي بعده .
( وقال : ( إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثة : سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه . وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه . وسأل الله عز وجله حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا للصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه [ فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطاه إياه ] ) .
الحديث أخرجه النسائي ( 1/112 - 113 ) عن أبي إدريس الخولاني والسياق له وابن ماجه ( 1/430 ) عن أبي زرعة الشيباني يحيى بن أبي عمرو وأحمد ( 2/176 ) عن ربيعة بن يزيد والحاكم ( 1/30 ) عنه وعن الشيباني معا - والزيادة لهما - ثلاثتهم عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا به . وقال الحاكم :
( صحيح على شرطهما ولا أعلم له علة ) ووافقه الذهبي .
قلت : أما أن الحديث صحيح فهو كما قالا لا شك فيه وأما أنه على شرطهما ففيه نظر لأن ابن الديلمي ليس من رجالهما وهو ثقة من كبار التابعين كما قال الحافظ في ( التقريب ) قال :
( ومنهم من ذكره في الصحابة ) .
والحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في ( صحيحهما ) كما في ( الترغيب ) ( 2/137 - 138 ) وقد صححه النووي في ( المجموع ) ( 8/278 ) والحافظ في ( الفتح ) ( 6/316 ) .
وللحديث شاهد لكن فيه زيادة منكرة جدا على ضعف شديد في إسناده وأنا أسوق لفظه للتحذير منه فطالما سمعناه من بعض الخطباء على رؤوس المنابر ولا حول ولا قوله إلا بالله .
أخرجه الطبراني في ( الكبير ) عن رافع بن عمير مرفوعا :
( قال الله لداود : ابن لي بيتا في الأرض . فبنى داود بيتا لنفسه قبل أن يبني البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه : يا داود نصبت بيتك قبل بيتي ؟ قال : أي رب هكذا قلت فيما قضيت : ( من ملك استأثر ) ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلثاه فشكا ذلك إلى الله عز وجل فأوحى الله تعالى إليه : ( إنه لا يصلح أن تبني لي بيتا ) قال : أي رب ولم ؟ قال : لما جرت على يديك من الدماء قال : أي رب أولم يكن ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال : بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم . فشق ذلك عليه فأوحى الله تعالى إليه : لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يد ابنك سليمان فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه فلما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه : قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك قال : أسألك ثلاث خصال : حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما اثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة ) . ا . ه .
من ( المجمع ) ( 4/7 - 8 ) و( المنتخب ) ( 5/369 ) وقال الهيثمي :
( وفيه محمد بن أيوب بن سويد وهو متهم بالوضع ) .
ثم رأيت الذهبي حكم على الحديث بالوضع فأصاب حيث قال في ترجمة ابن أيوب هذا :
( ضعفه الدارقطني وقال ابن حبان : لا تحل الرواية عنه قال أبو زرعة : رأيته قد أدخل في كتب أبيه أشياء موضوعة . قلت : من ذلك حديث :
لما بنى داود المسجد فسقط فقيل له : إنه لا تصلح أن تتولى بناءه قال : ولم يا رب ؟ قال : لما جرى على يديك من الدماء . قال : أو لم يكن في هواك ؟ قال : بلى ولكنهم عبادي أرحمهم . . . الحديث بطوله ) .
قلت : وقد رواه أيوب بن سويد والد محمد هذا عن أبي زرعة الشيباني بإسناده المتقدم عن ابن عمر مرفوعا بدون هذه الزيادة المنكرة الموضوعة .
أخرجه ابن ماجه عن عبيد الله بن الجهم الأنماطي عنه فهذا من الدليل على أن هذه الزيادة أدخلها محمد بن أيوب - قبحه الله - على أبيه .
وفي الباب عن أبي ذر رضي الله عنه قال : تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيهما أفضل : مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسجد بيت المقدس ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى وليوشكن أن يكون ( في الأصل : أن لا يكون ) للرجل مثل شطن ( هو الحبل ) فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا أو قال : خير من الدنيا وما فيها ) .
أخرجه الحاكم ( 4/509 ) من طريق الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الصامت عنه . وقال :
( صحيح الإسناد ) . ووافقه الذهبي .
وهو كما قالا .
وقد أخرجه الطبراني أيضا في ( الأوسط ) ورجاله رجال الصحيح كما في ( المجمع ) ( 4/7 ) . وقال المنذري ( 2/138 ) :
( رواه البيهقي بإسناد لا بأس به وفي متنه غرابة ) .
وقد رواه ابن عساكر من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن عبد الله بن الصامت به . فأسقط بين قتادة وابن الصامت أبا الخليل والأصح إثباته واسمه صالح بن أبي مريم وهو ثقة من رجال الستة .
قلت : ولعل وجه الغرابة أنه ثبت في حديث ميمونة المتقدم أن الصلاة في المسجد الأقصى بألف صلاة وفي حديث أبي الدرداء - الذي سبق ذكره في تخريج أول أحاديث المسجد - أن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة وفي حديث أبي ذر هذا أن صلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام أفضل من أربع صلوات في المسجد الأقصى وهذا لا يتفق في معناه في الحديثين المشار إليهما فإنه يفيد أن فضل الصلاة فيه أربعة أضعاف الصلاة في الأقصى وينتج منه أن الصلاة في المسجد الأقصى على الربع من الصلاة في المسجد النبوي أي : بمائتين وخمسين صلاة . وهذه النتيجة لا تتفق مع ما ثبت في الأحاديث الكثيرة المتقدمة أن الصلاة في الأقصى بألف أو بخمسمائة .
فيقال : إن الله سبحانه وتعالى جعل فضيلة الصلاة في الأقصى مائتين وخمسين صلاة أولا ثم أوصلها إلى الخمسمائة ثم إلى الألف فضلا منه تعالى على عباده ورحمة . والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
( ومن فضل هذه المساجد الثلاثة أنه لا يجوز قصد السفر على مسجد أو موضع من المواضع الفاضلة والصلاة فيها إلا إليها لقوله عليه الصلاة والسلام : ( لا تشد ( وفي رواية : لا تشدوا ) الرحال إلا ( وفي لفظ : إنما يسافر ) إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى ) .
الحديث ورد عن جمع من الصحابة :
الأول : أبو هريرة .
وله عنه ثلاثة طرق :
1 - عن الزهري عن سعيد بن المسيب عنه .
أخرجه البخاري ( 3/49 ) ومسلم ( 4/126 ) وأبو داود ( 1/318 ) والنسائي ( 1/114 ) وابن ماجه ( 1/430 ) وأحمد ( 2/234 و238 و278 ) والخطيب ( 9/222 ) من طرق عنه .
2 - عن ابن وهب : ثني عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس حدثه أن سلمان الأغر حدثه عنه . واللفظ الثاني له .
أخرجه مسلم وحده .
3 - عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه .
أخرجه الدارمي ( 1/330 ) وأحمد ( 2/501 ) قالا : ثنا يزيد بن هارون عنه .
وهذا سند حسن رجاله رجال الستة غير أن محمد بن عمرو أخرج له البخاري مقرونا ومسلم متابعة .
الثاني : أبو سعيد الخدري :
وله عنه أربعة طرق :
1 - عن قزعة عنه .
أخرجه البخاري ( 4/62 - 63 و195 ) ومسلم ( 4/102 ) والرواية الثانية له و الترمذي ( 2/148 ) وصححه وابن ماجه ( 1/430 ) وأحمد ( 3/7 و34 و45 و77 و78 ) والخطيب ( 11/194 - 195 ) من طرق عنه وأخرجه البيهقي أيضا ( 2/452 ) .
2 - عن مجالد : ثني أبو الوداك عنه .
أخرجه أحمد ( 3/53 ) .
وسنده حسن .
3 - عن عبد الملك بن عمير قال : سألت عكرمة مولى زياد قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال . . . . فذكره .
أخرجه أحمد ( 3/71 ) .
ورجاله ثقات رجال الستة غير عكرمة مولى زيادة فلم أعرفه ولم يورده الحافظ في ( التعجيل ) مع أنه على شرطه .
4 - عن ليث عن شهر قال : لقينا أبا سعيد ونحن نريد الطور فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تشد المطي إلا . . . ) الحديث .
أخرجه أحمد ( 3/93 ) .
وإسناده حسن رجاله رجال الستة إلا أن مسلما روى لليث - وهو ابن أبي سليم - مقرونا بغيره والبخاري روى له تعليقا وشهر لم يرو له في ( صحيحه ) وإنما روى له في ( الأدب المفرد ) وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام كما في ( التقريب ) .
قلت : وقد صرح في هذه الرواية بلقياه لأبي سعيد ثم إنها موافقة لسائر الروايات المتقدمة فأمنا بذلك من وهمه وإرساله .
نعم رواه عبد الحميد عن شهر قال : سمعت أبا سعيد الخدري - وذكرت عنده صلاة في الطور - فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام . . . الحديث .
أخرجه أحمد ( 3/64 ) وعمر بن شبة في كتاب ( أخبار المدينة ) كما في ( الصارم المنكي ) ( 241 ) .
فصرح عبد الحميد - وهو ابن بهرام - عن شهر بذكر المستثنى منه الذي لم يذكر في جميع روايات الحديث ما تقدم منها وما يأتي وهو قوله : ( إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة ) هو قد خالف بذلك الليث وكلاهما متكلم فيه لكن عبد الحميد أحسن حالا منه لا سيما في روايته عن شهر . وفي ( التقريب ) [ :
( هو صدوق ) .
فإذا كان قد حفظ هذه الزيادة عن شهر فيكون شهر قد روى الحديث بالمعنى الذي فهمه هو من الحديث وهو بهذا المعنى غير متفق عليه . وإما أن يكون أتي من سوء حفظه فأتى بها عفوا لا قصدا وهو الأرجح عندي لأن من يتتبع أحاديثه يجد فيها كثيرا من مثل هذه الزيادات التي لم يروها الحفاظ الثقات . وأيا ما كان فهذه الزيادة لا يجوز الاحتجاج بها لمخالفتها لروايات الثقات ولتفرد شهر بها .
وستعلم فيما يأتي - إن شاء الله تعالى - منزلة هذه الزيادة في تعيين وترجيح أحد المعنيين من الحديث والمعركة التي جرت بين العلماء حولها فليكن هذا منك على ذكر .
الثالث : عبد الله بن عمرو بن العاص .
أخرجه ابن ماجه ( 1/430 ) من طريق يزيد ( وفي الأصل : يزيد وهو خطأ مطبعي ) ابن مريم عن قزعة عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص معا مرفوعا .
وإسناده صحيح رجاله رجال البخاري غير محمد بن شعيب وهو ابن شابور وهو ثقة .
الرابع : أبو بصرة الغفاري .
وله عنه ثلاث طرق :
1 - عن عبد الملك بن عمير عن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي :
أن أبا بصرة لقي أبا هريرة وهو جاء فقال : من أين أقبلت ؟ قال : أقبلت من الطور صليت فيه قال : أما إني لو أدركتك لم تذهب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تشد الرحال . . . ) الحديث .
أخرجه الطيالسي ( رقم 1348 و2506 ) وأحمد ( 6/7 ) .
وهذا سند صحيح رجاله رجال الشيخين غير عمر بن الحارث هذا وهو ثقة كما في ( التقريب ) . وفي ( المجمع ) ( 4/3 ) :
( رواه أحمد والبزار بنحوه والطبراني في ( الكبير ) و( الأوسط ) ورجال أحمد ثقات أثبات .
2 - عن ابن إسحاق قال : ثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي بصرة الغفاري قال : لقيت أبا هريرة . . . الحديث .
أخرجه أحمد ( 6/397 ) .
وإسناده حسن .
3 - عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال : خرجت إلى الطور ( قلت : فذكر حديثا طويلا ثم قال : ) فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من الطور فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد . . . ) الحديث مثله .
أخرجه مالك ( 1/131 - 132 ) والنسائي ( 1/210 ) والترمذي ( 2/362 - 363 ) وأحمد ( 6/7 ) عنه . وقال الترمذي :
( حديث حسن صحيح ) .
قلت : وهو على شرط الشيخين إلا أن بعض الرواة منه وهم في موضعين :
الأول : في متن الحديث حيث قال : ( لا تعمل المطي ) والصواب : لا تشد الرحال ) .
والآخر : أنه جعله من مسند بصرة بن أبي بصرة والصواب أنه مسند والده أبي بصرة كما في الطريقين الأولين ولذلك قال الحافظ في ( التقريب ) والخزرجي في ( الخلاصة ) في ترجمة بصرة هذا :
( صحابي ابن صحابي والمحفوظ أن الحديث لوالده أبي بصرة ) .
الخامس : عبد الله بن عمر .
أخرجه أبو زيد عمر بن شبة النميري في كتاب ( أخبار المدينة ) قال : ثنا ابن أبي الوزير : ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طلق عن قزعة قال : أتيت ابن عمر فقلت : إني أريد الطور فقال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد . . . الحديث فدع عنك الطور فلا تأته .
رواه أحمد بن حنبل في ( مسنده ) كذا في ( الصارم المنكي ) ( ص 241 ) .
قلت : وليس هو في ( المسند ) وأظن أن هذه الجملة : ( رواه أحمد في مسنده ) وقعت هنا سهوا من بعض النساخ أو الطابع ومحلها عقب الحديث الذي أورده في ( الصارم ) بعد هذا الحديث وهو حديث عبد الحميد بن بهرام : ثنا شهر بن حوشب قال : سمعت أبا سعيد . . . الحديث . وقد مضى قريبا فقد عزاه لعمر بن شبة أبي زيد : ثنا هشام بن عبد الملك : ثنا عبد الحميد به . ثم لم يعزه للمسند وهو فيه كما سبق ويبعد أن يخفى ذلك على الحافظ ابن عبد الهادي ولذلك ذهبت إلى أن الأمر انقلب على البعض . والله أعلم .
ثم إن هذا الحديث موقوف وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير ابن أبي الوزير وهو محمد بن عمر بن مطرف أبو المطرف ابن أبي الوزير البصري وهو ثقة كما في ( التقريب )
وقد جاء مرفوعا أخرجه الطبراني في ( الكبير ) و( الأوسط ) بلفظ :
( لا تشد الرحال ) . قال الهيثمي ( 4/4 ) :
( ورجاله ثقات ) .
ثم وقفت على إسناده مرفوعا فقال الأزرقي في ( أخبار مكة ) ( ص 304 ) :
حدثني جدي قال : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طلق بن حبيب عن قزعة قال : أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر فقال ابن عمر : أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى ودع عنك الطور فلا تأته ) .
قلت : وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح .
وجد الأزرقي اسمه أحمد بن محمد بن الوليد الغساني وهو ثقة من رجال البخاري .
السادس : علي بن أبي طالب .
أخرجه الطبراني في ( الصغير ) ( ص 98 ) وكذا في ( الأوسط ) من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي عن أبيه إسماعيل عن جده يحيى عن سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي عن علي مرفوعا به .
وهذا سند ضعيف مسلسل بالضعفاء : إبراهيم وإسماعيل ويحيى . واقتصر الهيثمي في تضعيفه على إبراهيم هذا وهو قصور .
السابع : أبو الجعد الضمري .
أخرجه الطبراني في ( الكبير ) و( الأوسط ) ورجاله رجال ( الصحيح ) ورواه البزار أيضا . كذا في ( المجمع ) .
قلت : إذا ثبت هذا ففيه استدراك على قول البخاري في ترجمته أبي الجعد الضمري :
( لا أعرف له إلا هذا الحديث ) .
يعني الحديث الذي سيأتي في ( الجمعة ) في الترهيب عن ترك صلاة الجمعة . ومن الغريب أن الحافظ في ( الإصابة ) أقر البخاري على قوله هذا مع أن الخزرجي قال في ترجمة المذكور من ( الخلاصة ) :
( له أربعة أحاديث ) .
الثامن : عمر بن الخطاب .
رواه البزار ورجاله رجال ( الصحيح ) إلا أن البزار قال :
( أخطأ فيه حبان بن هلال ) .
قلت : حبان بن هلال كان ثقة ثبتا حجة كما قال ابن سعد وفي ( التقريب ) :
( ثقة ثبت ) .
فتخطئته صعب . والله أعلم .
وبالجملة فالحديث متواتر أو كاد وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة الثالثة من ( مجموعة الرسائل الكبرى ) ( 3/53 ) :
( وهو حديث مستفيض أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق ) .
قوله : ( لا تشد الرحال ) قال الحافظ :
( بضم أوله بلفظ النفي والمراد النهي عن السفر إلى غيرها . قال الطيبي : هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال : لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به والرحال جمع رحل : وهو للبعير كالسرج للفرس . وكنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور ويدل عليه قوله في اللفظ الثاني : ( إنما يسافر ) .
قوله : ( إلا إلى ثلاثة مساجد ) قال الحافظ :
( الاستثناء مفرغ والتقدير : لا تشد الرحال إلى موضع ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد كما سيأتي ) .
قلت : وهذا ضعيف والصواب الأول كما سنذكره . ثم قال :
( وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم والثاني كان قبلة الأمم السالفة والثالث أسس على التقوى .
واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها فقال الشيخ أبو محمد الجويني :
( يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر الحديث ) .
وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة . ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال له : ( لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت ) واستدل بهذا الحديث فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ووافقه أبو هريرة .
والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية : أنه لا يحرم وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها :
أن المراد : أن الفضيلة التامة إنما هي شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز وقد وقع في رواية لأحمد سيأتي ذكرها بلفظ : ( لا ينبغي للمطي أن تعمل ) وهو لفظ ظاهر في غير التحريم .
ومنها : أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة فإنه لا يجب الوفاء به . قاله ابن بطال .
ومنها : أن المراد حكم الساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال : سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينبغي للمصلي 45 أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي ) . وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف ) .
وأقول : لقد ألان الحافظ رحمه الله القول هنا في شهر وحسن حديثه بهذا اللفظ مع أنه حكم عليه بأنه كثير الأوهام كما سبق نقله عنه فيما تقدم فمن كان كذلك كيف يحسن حديثه ؟ لا سيما إذا تفرد به دون كل من روى الحديث فقد ورد من طرق ثلاثة أخرى عن أبي سعيد وليس فيها هذه الزيادة التي احتج بها الحافظ وهي : ( إلى مسجد ) .
يضاف إلى ذلك أنه ورد الحديث عن سبعة من الصحابة غير أبي سعيد من طرق كثيرة عن رواة ثقات ولم يقل أحد منهم ما قال شهر فهل بعد هذا دليل وبرهان على خطأ شهر في هذه الزيادة ؟
على أنه قد اختلف فيها على شهر فذكرها بعضهم عنه دون بعض كما سبق بيان ذلك عند الكلام على الحديث من الطريق الرابع عن أبي سعيد . من أجل ذلك ذهبنا هناك إلى أنه لا يجوز الاحتجاج بهذه الرواية .
وقد بدا لي حجة أخرى تؤيد خطأ شهر فأقول :
ومما يدلك على ضعف هذه الزيادة بل بطلانها : أن في حديث شهر نفسه أن أبا سعيد أنكر عليه الذهاب إلى الطور واحتج عليه بهذا الحديث فلو كان فيه هذه الزيادة التي تخص معناه بالمساجد دون سائر المواضع الفاضلة لما جاز لأبي سعيد - وهو العربي الصميم - أن يحتج به لأن شهرا لم يقصد الذهاب إلا إلى الطور وليس هو مسجدا وإنما هو جبل مقدس كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام فلا يشمله الحديث لو كانت فيه الزيادة فإنكاره الذهاب إليه أكبر دليل على بطلان نسبتها إلى حديثه ودليل أيضا على أن الحديث على عمومه وأنه يشمل الأماكن الفاضلة لأنه الذي فهمه أبو سعيد وكذا فهم منه عبد الله بن عمر وأبو بصرة الغفاري ووافقه أبو هريرة فكلهم أنكروا الذهاب إلى الطور محتجين بالحديث كما تقدم في تخريج أحاديثهم . فهؤلاء أربعة من الصحابة - لا مخالف لهم منهم - قد فهموا ذلك وهم أعلم بما سمعوه منه صلى الله عليه وسلم وأدرى بما يقول .
ثم إن النظر يحكم بصحة عموم الحديث لأنه إذا كان منع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة مع العلم بأن العبادة في كل المساجد أفضل منها في غير المساجد وغير البيوت وقد قال عليه الصلاة والسلام :
( أحب البقاع إلى الله المساجد ) كما مر وكان منع أيضا من السفر إلى الطور الذي سماه الله تعالى بالوادي المقدس فالمنع من السفر إلى غيرها أولى لا سيما إذا كان المكان المقصود قبور أنبياء وصالحين فإنه حرم بناء المساجد عليها كما مضى فكيف يسمح بالذهاب إليها ولم يسمح بالسفر إلى المساجد المبنية على تقوى الله ؟ وهذا - بحمد الله - بين لا يخفى .
وأما الجوابان الآخران اللذان حكاهما الحافظ فهما ضعيفان أيضا وإليك البيان :
أما الجواب الأول فالحديث وإن كان بلفظ النفي فهو بمعنى النهي كما حكاه الحافظ نفسه عن الطيبي . ويؤيد ذلك أمران :
الأول : أنه جاء صريحا بالنهي في الرواية الثانية : ( لا تشدوا ) .
والآخر : أنه الذي فهمه الصحابة فنهوا عن الذهاب إلى الطور كما سبق .
وهناك أمر ثالث يقوي ذلك : وهو أن الحديث من رواية أبي سعيد في ( الصحيحين ) وغيرهما قطعة من حديث ورد فيه النهي عن أربعة أمور :
( أ ) شد الرحال
( ب ) سفر المرأة بغير محرم .
( ج ) صوم يومي الفطر والأضحى .
( د ) الصلاة بعد الصبح والعصر .
والنهي في هذا للتحريم فحمل النهي عن شد الرحال خاصة للتنزيه خلاف الظاهر المتبادر وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز وهذا لا يجوز إلا لصارف ولا صارف هنا ورواية أحمد التي احتج بها الحافظ بلفظ : ( لا ينبغي للمطي أن تعمل ) غير صحيحة كما سبق بيانه مرارا فلا حجة فيها .
على أن هذه الرواية لو صحت فهي لا تفيد الجواز المجرد عن الكراهة بل هي نص في الكراهة وحينئذ فقول النووي في شرح الحديث من رواية أبي سعيد :
( الصحيح عند أصحابنا أنه لا يحرم ولا يكره ) .
غير صحيح . وقد قال النووي أيضا في شرح الحديث من رواية أبي هريرة ما نصه :
( معناه عند جمهور العلماء : لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها ) .
وهذا تسليم منه أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا فضيلة فيه فليس هو بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ومن المعلوم المشاهد أن من يقصد السفر إلى غيرها يبتغي بذلك التقرب إلى الله تعالى وهذا محرم اتفاقا لأنه تعبد الله تعالى بما لم يجعله عبادة ولذلك ذكر العلماء أنه ( لو نذر أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة بخلاف لو نذر أن يأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب ذلك باتفاق العلماء ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة لما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنه مرفوعا :
( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) .
والسفر إلى المسجدين هو طاعة فلهذا وجب الوفاء به .
وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة مع أنه يستحب زيارته لمن كان بالمدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما سيأتي قالوا : ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة . وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في ( إبانته الصغرى ) من البدع المخالفة للسنة والإجماع ) 46 .
بقي علينا الجواب عن الجواب الثاني الذي أورده الحافظ فنقول :
إنه تخصيص للحديث بدون أي مخصص والحديث أعم من ذلك وكل أحد يستطيع أن يدعي تخصيص أي عموم من كتاب أو سنة ولكن ذلك لا يقبل منه إلا مقرونا بالدليل والبرهان فأين الدليل هنا على هذه الدعوى ؟
ولذلك قال المحقق الصنعاني في ( سبل السلام ) ( 2/251 ) :
( وذهب الجمهور إلى أن ذلك غير محرم واستدلوا بما لا ينهض وتأولوا أحاديث الباب بتأويل بعيدة ولا ينبغي إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوه الدليل ) .
زاد أبو الطيب صديق حسن خان في ( فتح العلام ) ( 1/310 ) :
( ولا دليل والأحاديث الواردة في الحث على الزيارة النبوية وفضيلتها ليس فيها الأمر بشد الرحال إليها مع أنها كلها ضعاف أو موضوعات لا يصلح شيء منها للاستدلال ولم يتفطن أكثر الناس للفرق بين مسالة الزيارة وبين مسألة السفر لها فصرفوا حديث الباب عن منطوقه الواضح بلا دليل يدعو إليه ) .
قلت : وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى الاستدلال عليها بالأحاديث الضعيفة المشار إليها ففي الباب ما يغني عنها ولو لم يكن في الباب إلا الأحاديث العامة في زيارة القبور كفى في إثبات زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وذلك من باب أولى كما لا يخفى ولعله يأتي توضيح ذلك وبيانه في المحل المناسب له .
والخلاصة : أن ما ذهب إليه أبو محمد الجويني ومن وافقه من تحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة من المواضع الفاضلة هو الحق الذي يجب المصير إليه بخلاف السفر للتجارة وطلب العلم ونحو ذلك فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان كما قال شيخ الإسلام في ( الفتاوى ) ( 2/186 ) .
وقد جرى له رحمه الله فتن عظيمة بسبب إفتائه بتحريم شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين حتى قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه طافحة بالاستدلال لما ذهب إليه وقد رد عليه الإمام السبكي - وكان من معاصريه - وألف في ذلك كتابه المسمى : ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ) أورد فيه الأحاديث الواردة في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وأقوال العلماء في مشروعيتها وقد وقعت له فيه هفوة عظيمة حيث عزا إلى شيخ الإسلام القول بإنكار مطلق الزيارة النبوية - أعني بدون شد رحل - مع أنه من القائلين بها والذاكرين لفضلها وآدابها وقد ذكر ذلك فيما غير كتاب من كتبه ولذلك فقد قام بالرد على السبكي العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الهادي في مؤلف له كبير أسماه : ( الصارم المنكي في الرد على السبكي ) وهو كتاب قيم فيه فوائد كثيرة فقهية وحديثية وتاريخية وقد بين فيه بتوسع وتفصيل حال الأحاديث المشار إليها وما فيها من ضعف ووضع وبرأ ابن تيمية مما نسب إليه من الإنكار بما نقله عنه من النصوص الكثيرة فمن شاء فليرجع إليه .
ومن الغريب أن تروج تلك النسبة الخاطئة إلى ابن تيمية على كثير من العلماء والمشايخ الذين جاؤا بعده وكان آخرهم - إن شاء الله تعالى - الشيخ يوسف النبهاني فقد سود صحائف كثيرة بالطعن في ابن تيمية بجهل وضلال فقام أحد العلماء الأفاضل فرد عليه في كتاب ضخم اسمه : ( غاية الأماني في الرد على النبهاني ) أبان فيه عن جهل النبهاني وضلالته وانتصر فيه لابن تيمية بحق وعدل فمن شاء الوقوف على الحقيقة فليرجع إليه وليجعل كل اعتماده عليه .
هذا ولا بأس من أن أنقل إليك ما ذكره ولي الله الدهلوي في مسألة شد الرحل لأنه لا يخلو من فائدة جديدة قال رحمه الله في ( الحجة البالغة ) ( 1/192 ) :
( كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى فسد صلى الله عليه وسلم الفساد لئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من الأولياء والطور كل ذلك سواء في النهي ) .
( د ) : ثم مسجد قباء وهو المراد من قوله تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } [ التوبة/108 ] فإنه لما نزلت ( أتاهم عليه الصلاة والسلام في مسجد قباء فقال : إن الله تبارك وتعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا [ قال : وهو ذاك فعلكيم به ] ) .
الحديث من رواية عويم بن ساعدة ورواه بنحوه أبو أيوب الأنصاري وجابر .

( 1 ) انظر ( الفتاوى ) ( 1/118 - 122 و2/185 - 187 ) و( مجموعة الرسائل الكبرى ) ( 2/53 - 63 ) .

وأنس وما بين المربعين من حديثهم وإسناد الحديثين حسن وقد سبق تخريجهما في الكلام على المسجد النبوي وأنه أسس على التقوى أيضا كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام وذكرنا هناك وجه الجمع بين حديثه صلى الله عليه وسلم في ذلك وبين هذه الآية الكريمة فلا داعي للإعادة . وهي مع الحديث المذكور عقبها نص صريح في أن المسجد المذكور فيها هو مسجد قباء فالقول بأنه مسجد المدينة خطأ .
ومما يدل على أنه المسجد الذي أسس على التقوى ما في البخاري ( 7/195 ) في حديث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة : ( فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال الحافظ :
( أي مسجد قباء وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن عروة قال : الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنوا عمرو بن عوف . وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ ولفظه : ( ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى ) . فهذه الأخبار تدل على أنه كان معروفا عندهم بأنه المسجد الذي أسس على التقوى ) .
ثم قال الحافظ :
( وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن المعسودي عن الحكم بن عتيبة قال : ( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر : ما لرسول الله بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قباء فهو أول مسجد بني - يعني بالمدينة - ) وهو في التحقيق أول مسجد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بأصحابه جماعة ظاهرا وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة وإن كان قد تقدم بناء غير من المساجد لكن لخصوص الذي بناها كما تقدم في حديث عائشة في بناء أبي بكر مسجده ) .
وقد جاء حديث في قصة بنائه صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء فيه غرابة رواه الطبراني في ( الكبير ) عن الشموس بنت النعمان قالت : ( نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد مسجد قباء فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره ( يميله ) الحجر وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته فيأتي الرجل من أصحابه ويقول : بأبي وأمي يا رسول الله أعطني أكفك فيقول : لا خذ مثله . حتى أسسه ويقول : إن جبريل عليه السلام هو يؤم الكعبة قال : فكان يقال : إنه أقوم مسجد قبلة ) . قال الهيثمي ( 4/11 ) : ( ورجاله ثقات ) .
وما أعتقد أنه يصح فإنه من طريق عاصم بن سويد عن عبيد بن وديعة عنها .
رواه ابن أبي عاصم والزبير بن بكار من طريقين عن عاصم مختصرا ومطولا .
وكذلك أخرجه الحسن بن سفيان وابن منده من طريق سلمة بن عاصم ابن سويد . لكن خالف في شيخ عاصم فقال : عن أبيه عن الشموس به مطولا . وقد ساق لفظه الحافظ في ( الإصابة ) ( 4/343 ) فإن عاصما هذا هو ابن سويد بن يزيد بن جارية الأنصاري إمام مسجد قباء قال ابن معين :
( لا أعرفه ) . وقال ابن عدي :
( قليل الرواية جدا ) . قال الذهبي :
( وساق له حديثا منكرا وقال أبو حاتم : روى حديثين منكرين ) . وفي ( التقريب ) :
( مقبول ) .
وأما والده سويد على الرواية الأخيرة فلم أجد له ترجمة وكذلك عبيد ابن وديعة أو عتبة كما وقع في ( الإصابة ) في موضعين : عبيد وفي آخر : عتبة فإني لم أعرفه . والله أعلم .
( وللصلاة فيه أجر عظيم فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من خرج حتى يأتي هذا المسجد - يعني مسجد قباء ( وفي لفظ : من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء ) فيصلي فيه كان كعدل عمرة ( وفي اللفظ الآخر : كان له كأجر عمرة ) .
الحديث من رواية محمد بن سليمان الكرماني قال : سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يقول : قال أبي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكره .
أخرجه النسائي ( 1/113 - 114 ) والحاكم ( 2/12 ) وأحمد ( 3/487 ) من طريق مجمع بن يعقوب الأنصاري عنه .
وأخرجه ابن ماجه ( 1/431 ) من طريق حاتم بن إسماعيل وعيسى بن يونس قالا : ثنا محمد بن سليمان الكرماني به باللفظ الآخر .
وأخرجه أحمد أيضا عن حاتم . ثم قال الحاكم :
( صحيح الإسناد ) . ووافقه الذهبي .
وهو كما قالا فإن رجاله عند ابن ماجه وأحمد ثقات رجال الشيخين غير محمد بن سليمان الكرماني وهو وإن لم ينقلوا توثيقه إلا عن ابن حبان فقد روى عنه جمع من الثقات كما ترى ثم إن الظاهر أنه لم يتفرد به فقد قال المنذري ( 2/139 ) :
( ورواه البيهقي وقال : رواه يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه وزاد : ( ومن خرج على طهر لا يريد إلا مسجدي هذا . يريد مسجد المدينة ليصلي فيه كانت بمنزلة حجة ) . قال المنذري :
( انفرد بهذه الزيارة يوسف بن طهمان وهو واه والله أعلم ) .
قلت : وكذلك قال الذهبي في يوسف بن طهمان أنه واه ثم ساق حديثه هذا من طريق زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة : ثني يوسف بن طهمان مولى لآل معاوية عن أبي أمامة به مرفوعا بلفظ : من توضأ في منزله ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه أربع ركعات كان كعدل عمرة . ويروى نحوه بإسناد صالح ) .
يشير إلى رواية محمد بن سليمان الكرماني وقد أورده الهيثمي في ( المجمع ) ( 4/11 ) باللفظ الآخير إلا أنه قال :
( كعدل رقبة ) بدل : ( عمرة ) . ثم قال الهيثمي :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف ) .
قلت : والظاهر أنه ممن رواه من طريق ابن طهمان كما ذكره الذهبي لكن لم يذكر هو ولا الهيثمي تلك الزيادة التي أوردها المنذري عن البيهقي فلعلها رواية عن ابن طهمان . والله أعلم .
ثم إن للحديث شاهدا من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري مرفوعا بلفظ :
( صلاة في مسجد قباء كعمرة ) .
أخرجه الترمذي ( 2/145 - 146 ) وابن ماجه والحاكم ( 1/487 ) من طريق عبد الحميد بن جعفر قال : ثنا أبو الأبرد مولى بني خطمة عنه . وقال الترمذي :
( حديث حسن غريب ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئا يصح غير هذا الحديث ) وقال الحاكم :
( صحيح الإسناد إلا أن أبا الأبرد مجهول ) . وكذا قال الذهبي . وقال في ( الميزان ) :
( ما روى عنه سوى عبد الحميد بن جعفر ) . وفي ( التقريب ) أنه :
( مقبول ) .
وقد اختلف في اسمه فقيل : زياد وقيل : موسى بن سليم . والله أعلم .
وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة . قال الهيثمي :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو ضعيف ) .
ثم أخرج الحاكم ( 2/12 ) من طريق هاشم بن هاشم قال : سمعت عامر ابن سعد وعائشة بنت سعد يقولان : سمعنا سعدا يقول :
لأن أصلي في مسجد قباء أحب إلي من أصلي في مسجد بيت المقدس . وقال :
( صحيح على شرط الشيخين ) . ووافقه الذهبي وأقره المنذري ( 2/139 ) . وهو كما قالوا .
وأورده الحافظ في ( الفتح ) ( 3/53 ) بزيادة : ( ركعتين ) بعد قباء وفي آخره :
( مرتين لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل ) . وقال :
( رواه عمر بن شبة في ( أخبار المدينة ) بإسناد صحيح ) .
قلت : وهو حديث موقوف ولو كان مرفوعا لأفاد تفضيل مسجد قباء على بيت المقدس وقد قال الحافظ إنه :
( لم يثبت في الصلاة فيه تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة ) .
قلت : من أجل ذلك جعلناه رابع المساجد الأربعة . وقال شيخ الإسلام في ( مجموعة الرسائل الكبرى ) ( 2/54 ) :
( والمسجد الحرام أفضل المساجد ويليه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويليه المسجد الأقصى ) قال :
( والذي عليه جمهور العلماء أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ) .
( ولذلك ( كان صلى الله عليه وسلم يأتي قباء [ كل سبت ] راكبا وماشيا [ فيصلي فيه ركعتين ] ) .
الحديث من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه وله عنه ثلاثة طرق :
1 - عن نافع عنه .
أخرجه البخاري ( 3/53 ) ومسلم ( 4/127 ) ومالك ( 1/181 ) وأبو داود ( 1/319 ) والطيالسي ( ص 252 رقم 1839 ) وأحمد ( 2/4 و57 و58 و65 و101 و155 ) من طرق عنه . والزيادة الثانية للشيخين .
2 - عن عبد الله بن دينار عنه .
عند الشيخين والنسائي ( 1/113 ) وأحمد ( 2/30 و58 و65 و72 و108 ) من طرق أيضا عنه . والزيادة الأولى للشيخين أيضا .
وأخرجه الحاكم ( 1/487 ) من هذا الوجه بلفظ :
( كان يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا ) . وقال :
( صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ ) .
3 - رواه ابن إسحاق : ثني أبي إسحاق بن يسار عن عبد الله بن قيس بن مخرمة قال : أقبلت من مسجد بني عمرو بن عوف بقباء على بغلة لي قد صليت فيه فلقيت عبد الله بن عمر ماشيا فلما رأيته نزلت عن بغلتي ثم قلت : اركب أي عم . قال : أي ابن أخي لو أردت أن أركب الدواب لوجدتها ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إلى هذا المسجد حتى يصلي فيه فأنا أحب أن أمشي إليه كما رأيته يمشي . قال : فأبى أن يركب ومضى على وجهه ) .
أخرجه أحمد ( 2/119 ) .
وإسناده حسن .
وروى ابن حبان في ( صحيحه ) كما في ( الترغيب ) ( 2/139 ) عن ابن عمر أيضا أنه شهد جنازة بالأوساط في دار سعد بن عبادة فأقبل ماشيا إلى بني عمرو بن عوف بفناء الحارث بن الخزرج فقيل له : أين تؤم يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : أؤم هذا المسجد في بني عمرو بن عوف فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من صلى فيه كان كعدل عمرة ) . قال الحافظ :
( وفي هذا الحديث - على اختلاف طرقه - دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك وفيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكبا وتعقب بأن مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى قباء إنما كان لمواصلة الأنصار وتفقد حالهم وحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه وهذا هو السر في تخصيص ذلك بالسبت ) .
قلت : فعلى هذا فذهابه عليه الصلاة والسلام يوم السبت لم يكن مقصودا بالذات بل مراعاة لمصلحة التفقد المذكور وعليه فالأيام كلها سواء في الفضيلة في زيارة قباء لعدم وجود قصد التخصيص فما ذكره القاري في ( المرقاة ) ( 1/448 ) عن الطيبي أن :
( الزيارة يوم السبت سنة ) .
ليس كما ينبغي 47 .
وكذلك الاستدلال بالحديث على جواز التخصيص المذكور ليس بجيد أيضا إلا أن يكون المراد به التخصيص مراعاة للمصلحة لا ترجيحا ليوم على آخر بدون نص من النبي صلى الله عليه وسلم مثال ذلك تخصيص يوم للتدريس أو إلقاء محاضرة ليجتمع الناس لسماع ذلك فهذا لا مانع منه لأن اليوم ليس مقصودا بالذات ولذلك ينتقل منه إلى غيره مرارا ملاحقة للمصلحة وهذا بخلاف تخصيص بعض الأيام ببعض العبادات بزعم أنها فيها أفضل منها في غيرها كتخصيص ليلة العيدين بالقيام والعبادة وتخصيص يومهما بالزيارة - أعني زيارة القبور - وتخصيص شهر ربيع الأول بقراءة قصة مولد الرسول عليه الصلاة والسلام فكل هذا وأمثاله بدع ومنكرات يجب نبذها والنهي عنها ولذلك لما استدل النووي في ( شرح مسلم ) بالحديث على جواز التخصيص قال :
( وكره ابن مسلمة المالكي ذلك ولعله لم تبلغه هذه الأحاديث ) .
قلت : هذا بعيد والأقرب أنها بلغته ولكنه لم يفهم منها ما ذهب إليه النووي وغيره وقد بينا ما هو الحق عندنا في المسألة . والله أعلم .
( فائدة ) : قال شيخ الإسلام في ( الفتاوى ) ( 2/186 ) :
( ذكر بعض المتأخرين من العلماء أنه لا بأس بالسفر إلى المشاهد واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا ولا حجة لهم فيه لأن قباء ليس مشهدا بل مسجد وهي منهي عن السفر إليها باتفاق الأئمة لأن ذلك ليس بسفر مشروع بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء فهذا يستحب كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد ) .
قلت : ولهذا قلنا :
( ولكن لا يجوز أن يشد الرحل إليه للحديث السابق ) .
وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد . . . الحديث ) وليس هذا منها .
تلك هي المساجد الأربعة التي جاء النص بتفضيلها على غيرها من المساجد فأما هذه فإنها سواء في الفضل وإن كان الأقدم منها أفضل لكونها أبعد عن أن تكون بنيت للإضرار والفخر والمباهاة كما سبقت الإشارة إلى ذلك . وأما ما نقله ابن عابدين في ( الحاشية ) ( 1/14 ) عن كتاب ( أخبار الدول ) بالسند إلى سفيان الثوري أن :
( الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة ) .
فهو مع كونه موقوفا على سفيان الثوري فإنه لا يصح عنه وهو منكر .
وقد رواه ابن عساكر في ( تاريخه ) من طريق أحمد بن أنس بن مالك : أنبأنا حبيب المؤذن : أنبأنا أبو زياد الشعباني أو أبو أمية الشعباني قال : كنا بمكة فإذا رجل في ظل الكعبة وإذا هو سفيان الثوري فقال رجل : يا أبا عبد الله ما تقول في الصلاة في هذه البلدة ؟ قال : بمائة ألف صلاة . قال : ففي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بخمسين ألف صلاة . قال : ففي بيت المقدس ؟ قال : بأربعين ألف صلاة . قال : ففي مسجد دمشق ؟ قال : بثلاثين ألف صلاة .
ثم رواه ابن عساكر من طريق أخرى عن أحمد بن أنس فقال فيه :
( عن أبي زياد وأبي أمية بغير شك ) .
وأيا ما كان فهذا سند ضعيف مجهول : أبو زياد الشعباني الظاهر أنه خيار بن سلمة أبو زياد الشامي قال الحافظ في ( التقريب ) :
( مقبول من الثالثة ) .
وأما قرينه أبو أمية الشعباني فهو يحمد - بضم التحتانية وسكون المهملة وكسر الميم وقيل : بفتح أوله والميم - وقيل : اسمه عبد الله قال الحافظ :
( مقبول من الثانية ) .
وأما أحمد بن أنس بن مالك وحبيب المؤذن فلم أجد من ترجمهما غير هذا الأخير فأورده ابن عساكر فترجمه بقوله :
( كان يؤذن في مسجد سوق الأحد ) .
ولم يزد على ذلك .
ثم إن سفيان الثوري رحمه الله هو ممن روى حديث أبي هريرة المتقدم رقم ( 6 ) بلفظ :
( صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد . . . ) .
فيبعد أن يصح عنه من قوله ما يخالف ما رواه هو نفسه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيغلب على الظن أن هذه الرواية مدسوسة عليه لمخالفتها للأحاديث الصحيحة .
نعم روي عن أنس مرفوعا بلفظ :
( صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ) .
أخرجه ابن ماجه ( 1/431 - 432 ) من طريق أبي الخطاب الدمشقي : ثنا زريق أبو عبد الله الألهاني عنه . قال في ( الزوائد ) :
( إسناده ضعيف لأن أبا الخطاب الدمشقي لا يعرف حاله وزريق فيه مقال حكي عن أبي زرعة أنه قال : لا بأس به وذكره ابن حبان في ( الثقات ) وفي ( الضعفاء ) وقال : ينفرد بالأشياء لا يشبه حديث الأثبات لا يجوز الاحتجاج به إلا عند الوفاق ) .
وقال الحافظ في ( التقريب ) إنه :
( صدوق له أوهام ) .
قلت : وهذا الحديث من أوهامه إن كان أبو الخطاب قد حفظه منه وإلا فأبو الخطاب لا يعرف كما سبق وقال الحافظ :
( إنه مجهول ) . وقال الذهبي في ( الميزان ) :
( ليس بالمشهور ) ثم ساق له هذا الحديث ثم قال :
( هذا منكر جدا ) .
ونعم ما قال .
وقد أخرج الحديث ابن عساكر أيضا في ترجمة مسجد دمشق من طرق عن أبي الخطاب به .
ومن هذا القبيل ما أخرجه ابن عساكر أيضا من طريق هشام بن عمار : أنبأنا الحسن بن يحيى الخشني : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به صلى في موضع مسجد دمشق ) . وقال :
( هذا منقطع ) .
قلت : بل هو معضل فإن بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الخشني هذا مفاوز وقد قال فيه الحافظ في ( التقريب ) :
( صدوق كثير الغلط من الثانية مات بعد التسعين . يعني : والمائة ) .
وقد ساق له الذهبي في ( الميزان ) منكرات منها ما رواه بسنده عن أنس مرفوعا :
( ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين يوما حتى يرد الله إليه روحه ) ثم قال :
( مررت بموسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي بين عالية وعويلية ) .
رواه ابن حبان وساق إسناده إليه وقال :
( وهذا باطل موضوع ) .
وأخرجه ابن الجوزي في ( الموضوعات ) .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن ( رجلين اختلفا في الصلاة في جامع بني أمية : هل هي بتسعين صلاة كما زعموا أم لا ؟ وقد ذكروا أن فيه ثلاثمائة نبي مدفون فهل ذلك صحيح أم لا ؟ وقد ذكروا أن النائم بالشام كالقائم بالليل بالعراق وذكروا أن الصائم المتطوع في العراق كالمفطر بالشام وذكروا أن الله خلق البركة إحدى وسبعين جزءا منها جزء واحد بالعراق وسبعون بالشام فهل ذلك صحيح أم لا ؟ ) .
فأجاب :
( الحمد لله لم يرد في جامع دمشق حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتضعيف الصلاة فيه ولكن هو من أكثر المساجد ذكرا لله تعالى ولم يثبت أن فيه عدد الأنبياء المذكورين وأما القائم بالشام أو غيره فالأعمال بالنيات فإن المقيم فيه بنية صالحة فإنه يثاب على ذلك وكل مكان يكون فيه العبد أطوع لله فمقامه أفضل وقد جاء في فضل الشام وأهله أحاديث صحيحة ودل القرآن على أن البركة في أربعة مواضع ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه في غيره وفيه من ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق ما لا يوجد في غيره . وأما ما ذكر من حديث الفطر والصيام وأن البركة إحدى وسبعون جزءا بالشام والعراق على ما ذكر فهذا لم نسمعه عن أحد من أهل العلم . والله أعلم ) . ( الفتاوى ) ( 1/311 ) .
قلت : ولو ثبت أن فيه الأنبياء المذكورين فهو غير مستلزم لفضيلة قصد الصلاة فيه كما يتوهم بعض الناس بل هو منهي عنه أشد النهي لأنه من اتخاذ القبور مساجد وقد نهينا عن ذلك كما سبق ولذلك قال شيخ الإسلام أيضا رحمه الله في ( الفتاوى ) ( 4/310 ) :
( وما يفعله بعض الناس من تحري الصلاة والدعاء عند ما يقال : إنه قبر نبي أو قبر أحد من الصحابة والقرابة أو ما يقرب من ذلك أو إلصاق بدنه أو شيء من بدنه بالقبر أو بما يجاور القبر من عود وغيره كمن يتحرى الصلاة والدعاء في قبلي شرقي جامع دمشق عند الموضع الذي يقال : إنه قبر هود - والذي عليه العلماء أنه قبر معاوية بن أبي سفيان - أو عند المثال الخشب الذي يقال : تحته رأس يحيى بن زكريا ونحو ذلك فهو مخطئ مبتدع مخالف للسنة فإن الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا كانوا يفعلون ذلك بل كانوا ينهون عن مثل ذلك كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب ذلك ودواعيه وإن لم يقصدوا دعاء القبر والدعاء به فكيف إذا قصدوا ذلك ؟ ) ثم قال :
( وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبي أو ولي فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها إن الدعاء فيه أفضل من غيره ولكن هذا مما ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين فأصله من دين المشركين لا من دين عباد الله المخلصين كاتخاذ القبور مساجد فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها ولكن ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة لمن لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ) .
هذا وإذ قد انتهينا من بيان أفضل المساجد وما يتعلق بها فلنشرع بذكر ما للمساجد عامة من الآداب والأحكام الخاصة بها فأقول :
( ذلك ولما كانت المساجد عامة أحب البقاع إلى الله تعالى كما سبق فقد شرع لها الشارع الحكيم أحكاما خاصة بها دون سائر الأماكن وهي على ثلاثة أقسام :
( أ ) الآداب .
( ب ) النواهي .
( ج ) المباحات .
فإليك بيانها على هذا الترتيب :
( أ ) الآداب وهي تشمل الواجبات والمستحبات :
( 1 - تطهيرها وتكنيسها وتطييبها بالخلوق وغيره وجوبا فقد ( أمر عليه السلام ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ) .
الحديث من رواية عائشة رضي الله عنها . وهو صحيح وقد سبق ذكره مع شواهده في أول الفصل .
وأخرج ابن ماجه ( 1/253 ) من طريق الحارث بن نبهان : ثنا عتبة بن يقظان عن أبي سعيد عن مكحول عن واثلة بن الأسقع مرفوعا :
( جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراركم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع ) . قال في ( الزوائد ) :
( إسناده ضعيف فإن الحارث بن نبهان متفق على ضعفه ) . ولذلك قال ابن كثير ( 3/293 ) :
( وفي إسناده ضعف ) . وأشار إلى ذلك المنذر وقال : ( 1/120 ) :
( ورواه الطبراني في ( الكبير ) عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة ورواه في ( الكبير ) أيضا بتقديم وتأخير من رواية مكحول عن معاذ ولم يسمع منه ) .
قلت : وفي طريق الطبراني الأول العلاء بن كثير الليثي الشامي وهو ضعيف كما في ( المجمع ) ( 2/26 ) ولذلك أيضا ( أورده ابن الجوزي في ( الواهيات ) وقال :
( لا يصح ) . وقال ابن حجر في ( تخريج الهداية ) :
( له طرق وأسانيد كلها واهية ) . وقال عبد الحق :
( لا أصل له ) .
كذا في ( الفيض ) .
وأخرج أبو يعلى من طريق عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه ( كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة ) . قال الهيثمي ( 2/11 ) :
( وفيه عبد الله بن عمر العمري : وثقه أحمد وغيره واختلف في الاحتجاج به ) . وقال ابن كثير :
( إسناده حسن لا بأس به والله أعلم ) .
قلت : ورواه ابن أبي شيبة أيضا كما في ( المنتخب ) ( 3/261 ) .
قال في ( المرقاة ) ( 1/459 ) بعد أن ذكر حديث عائشة :
( قال ابن حجر : وبه يعلم أنه يستحب تجمير المسجد بالبخور خلافا لمالك حيث كرهه فقد كان عبد الله بن عمر يجمر المسجد إذا قعد عمر رضي الله عنه على المنبر واستحب بعض السلف بالزعفران والطيب ووري عنه عليه الصلاة والسلام فعله وقال الشعبي : هو سنة . وأخرج ابن أبي شيبة : أن ابن الزبير لما بنى الكعبة طلى حيطانها بالمسك . وأنه يستحب أيضا كنس المسجد وتنظيفه وقد روى ابن أبي شيبة أنه عليه الصلاة والسلام كان يتتبع غبار المسجد بجريدة ) .
قلت : والحديث يفيد وجوب التطهير والتطييب لأنه أمر بهما والأمر يفيد الوجوب وقد قال به في الأول منهما ابن حزم دون الآخر فقال ( 4 و/239 ) :
( وتكره المحاريب في المساجد وواجب كنسها ويستحب أن تطيب ) .
قلت : ولا أدري ما حمله على صرف الأمر إلى الاستحباب في التطييب . والله أعلم .
( وقال : ( عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ) .
الحديث وله تتمة وهي :
( وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها الرجل ثم نسيها ) .
أخرجه أبو داود ( 1/76 ) والترمذي ( 2/150 ) قالا : ثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق البغدادي : ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج عن المطلب بن حنطب عن أنس مرفوعا به . وقال الترمذي :
( حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ) قال :
( وذاكرت به محمد بن إسماعيل ( يعني : البخاري ) فلم يعرفه واستغربه قال محمد : ولا أعرف للمطلب بن عبد الله سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوله : ثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول : لا نعرف للمطلب سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله : وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس ) .
وقال المنذري بعد أن نقل كلام الترمذي هذا ( 1/119 ) :
( قال أبو زرعة : المطلب ثقة أرجو أن يكون سمع من عائشة ومع هذا ففي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد وفي توثيقه خلاف ) .
قلت : وفي ( التقريب ) أن عبد المجيد هذا :
( صدوق يخطئ ) .
ولهذا وذاك قال في ( الفتح ) ( 9/70 ) :
( في إسناده ضعف ) .
والحديث رواه البيهقي ( 2/440 ) من طريق أبي داود ثم قال :
( رواه محمد بن إسحاق بن خزيمة عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق ) .
قلت : وهو ثقة .
وقد خالفه في إسناده محمد بن يزيد الآدمي وهو ثقة أيضا فقال : ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن جريج عن الزهري عن أنس به .
أخرجه الطبراني في ( الصغير ) ( ص 113 ) فجعل الزهري مكان المطلب ابن عبد الله والزهري سمع من أنس . والله أعلم بالصواب .
وأيا ما كان فإن للحديث شاهدا مرسلا نحوه أخرجه ابن أبي داود كما في ( الفتح ) فهو به حسن إن شاء الله تعالى وقد صححه ابن خزيمة .
ثم رجعت عن هذا وذهبت إلى أن الحديث ضعيف فانظر ( ضعيف أبي داود ) ( رقم 71 ) .
( تنبيه ) : قد عزا الحديث المنذري ( 1/119 و212 - 213 ) لابن ماجه أيضا وما أراه إلا وقد وهم فإني لم أجده عنده ولا نسبه إليه أحد ممن وقفت على تخريجه إياه كالحافظ في ( الفتح ) 48 وأبي البركات في ( المنتقى ) والسيوطي في ( الجامع ) كما أن النابلسي لم يعزه في ( الذخائر ) ( 1/46 ) إلا إلى أبي داود وحده .
قوله : ( القذاة ) بتخفيف الذال المعجمة والقصر : الواحدة من التبن والتراب وغير ذلك قال أهل اللغة :
( القذى ) : في العين والشراب مما يسقط فيه ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرا . قال ابن رسلان في ( شرح السنن ) :
( فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة أنها تكتب في أجورهم وتعرض على نبيهم وإذا كتب هذا القليل وعرض فيكتب الكبير ويعرض من باب الأولى ففيه تنبيه بالأدنى على الأعلى وبالطاهر على النجس والحسنات على قدر الأعمال ) . قال :
( وسمعت بعض المشايخ أنه ينبغي لمن أخرج قذاة من المسجد أو أذى من طريق المسلمين أن يقول عند أخذها : لا إله إلا الله ليجمع بين أدنى شعب الإيمان ( يعني : إماطة الأذى ) وأعلاها : وهي كلمة التوحيد وبين الأفعال والأقوال وإن اجتمع القلب مع اللسان كان ذلك أكمل . انتهى . إلا أنه لا يخفى أن الأحكام الشرعية تحتاج إلى دليل وقوله : ينبغي حكم شرعي ) كذا في ( نيل الأوطار ) ( 2/128 ) .
( ولذلك ( لما ماتت المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد وتلتقط الخرق والعيدان منه سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام فقيل له : إنها ماتت فقال : فهلا آذنتموني ؟ فقالوا : إنه كان ليلا قال : فكأنهم صغروا أمرها قال : فدلوني على قبرها . فأتى القبر فصلى عليها ) .
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه . وله عنه طريقان :
الأول : عن حماد بن زيد بن عن ثابت عن أبي رافع عنه .
أخرجه البخاري ( 1/438 - 439 و440 و3/159 ) ومسلم ( 3/56 ) وابن ماجه ( 1/465 ) والطيالسي ( 321 رقم 2446 ) وأحمد ( 2/353 و388 ) يزيد بعضهم على بعض .
وقد تابعه عن ثابت : أبو عامر الخزاز صالح بن رستم عند الطيالسي قرنه بحماد بن زيد وكلهم قالوا : إن رجلا أسود أو امرأة . هكذا على الشك إلا ابن ماجه فقال : إن امرأة سوداء . بدون شك .
وإسناده صحيح كما قال المنذري ( 1/118 ) ويقوي هذه الرواية الطريق :
الثاني : عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : فقد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة سوداء كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد فقال : أين فلانة ؟ قالوا : ماتت . . . وذكر الحديث .
أخرجه البيهقي ( 2/440 ) وكذلك أخرجه ابن خزيمة في ( صحيحه ) من هذا الوجه كما في ( الفتح ) وقال :
( رواه البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن بريدة عن أبيه فسماها أم محجن وأفاد أن الذي أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله أبو بكر الصديق وفيه : ( كانت مولعة بلقط القذى من المسجد ) .
قلت : وقد روي الحديث أيضا عن أبي سعيد الخدري عند ابن ماجه وابن عباس عند الطبراني وعبيد بن مرزوق مرسلا عند الأصبهاني وفي أسانيدها ضعف وفيها كلها القطع بأن صاحبة القصة امرأة فراجع - إن شئت ( الترغيب ) . قال الحافظ :
( وفي الحديث فضل تنظيف المسجد والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب وفيه المكافأة بالدعاء والترغيب في شهود جنائز أهل الخير . . . إلخ ) .
( و( رأى نخامة في قبلة المسجد فغضب حتى احمر وجهه فقامت امرأة من الأنصار فحكتها وجعلت مكانها خلوقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أحسن هذا ) .
الحديث من رواية أنس رضي الله عنه .
أخرجه النسائي ( 1/119 ) وابن ماجه ( 1/257 ) من طريق عائذ بن حبيب قال : ثنا حميد الطويل عنه .
وهذا سند صحيح رجاله رجال الشيخين غير عائذ بن حبيب وهو صدوق كما في ( التقريب ) وأشار إليه في ( الفتح ) ( 1/403 ) وسكت عليه وهو في البخاري وغيره بلفظ آخر عن حميد ولعله يأتي .
وله شاهد من حديث ابن عمر مختصرا بلفظ :
رأى نخاعة في قبلة المسجد فحكها وخلق مكانها .
أخرجه أحمد ( 2/18 و34 - 35 ) من طريق ابن أبي رواد : ثني نافع عنه .
وهذا سند حسن .
وقد أخرجه أبو داود ( 1/78 ) من طريق أيوب عن نافع به إلا أنه قال : وأحسبه قال : فدعا بزعفران فلطخه به .
وكذلك رواه الإسماعيلي كما في ( الفتح ) ( 1/404 ) وهو في ( الصحيحين ) بدون ذكر التخليق وسيأتي إن شاء الله تعالى في ( المناهي ) 49 .
( الخلوق ) بفتح الخاء المعجمة : طيب مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب .
وفي الحديث دليل على تنظيف المسجد وتنزيهه عما يستقذر وتطييبه بالخلوق أو غيره . قال ابن عبد البر :
( وفي حكم البصاق في المسجد تنزيهه عن أن يؤكل فيه مثل البلوط والزبيب لعجمه وما له دسم وتلويث وحب دقيق وما يكنسه المرء من بيته ) . ذكره العراقي في ( شرح التقريب ) ( 2/385 ) .
( ولذلك فإنه لا يجوز أن يلقى في المسجد شيئا من الحشرات ونحوها مما في معناها من بدنه لقوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا وجد أحدكم القملة في ثوبه فليصرها ولا يلقها في المسجد ) .
الحديث أخرجه أحمد ( 5/410 ) : ثنا إسماعيل : ثني حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق عن رجل من الأنصار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . . . فذكره .
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الستة غير الحضرمي بن لاحق وهو لا بأس به كما في ( التقريب ) لكنه ذكر أنه من الطبقة السادسة أي : الذين لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة وعلى هذا فالحديث منقطع 50 وقد قال الهيثمي ( 2/20 ) :
( رواه أحمد ورجاله موثقون ) .
قلت : لكنه يتقوى بشاهده الذي ساقه في ( المجمع ) عقب هذا ( عن شيخ من أهل مكة من قريش قال : وجد رجل في ثوبه قملة فأخذها ليطرحها في المسجد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تفعل ردها إلى ثوبك حتى تخرج من المسجد ) . رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن محمد بن إسحاق عنعنه وهو مدلس ) .
قلت : ولم أجده الآن في ( المسند ) .
( 2 - إنارتها بما لا إسراف فيه لقوله عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس : ( ائتوه فصلوا فيه فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله ) وقد مضى ) .
الحديث رواه أبو داود وهذا لفظه ورواه أحمد وابن ماجه بلفظ آخر سبق ذكره مع تخريجه في الكلام على المسجد الأقصى .
والحديث فيه مشروعية إيقاد السرج في المساجد لإنارتها وأقل ما يفيده الاستحباب وقد ترجم له أبو داود وكذا البيهقي ب :
( باب السرج في المساجد ) .
وأخرج ابن ماجه ( 1/356 ) عن خالد بن إياس عن يحيى بن عبد الرحمن ابن حاطب عن أبي سعيد الخدري قال : أول من أسرج في المساجد تميم الداري . قال في ( الزوائد ) :
( هو موقوف وفي إسناده خالد بن إياس اتفقوا على ضعفه ) .
وقد روي هذا مفصلا في ( تفسير القرطبي ) ( 12/274 ) :
( روى سعيد بن زبان : حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند رضي الله عنه قال : حمل تميم - يعني الداري - من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومقطا فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة فأمر غلاما يقال له : أبو البزاد فقام فنشط المقط وعلق القناديل وصب فيها الماء والزيت وجعل فيها الفتيل فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بها تزهر فقال : ( من فعل هذا ؟ ) قالوا : تميم الداري يا رسول الله فقال : ( نورت الإسلام نور الله عليك في الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها ) قال نوفل بن الحارث : لي ابنة يا رسول الله تسمى المغيرة بنت نوفل فافعل بها ما أردت . فأنكحه إياها .
زبان ( بفتح الزاي وتشديدها بنقطة واحدة من تحتها ) ينفرد بالتسمي به سعيد 51 وحده فهو أبو عثمان سعيد بن زبان بن فائد بن زبان أبي هند .
وأبو هند هذا مولى ابن بياضة حجام النبي صلى الله عليه وسلم .
و( المقط ) : جمع المقاط : وهو الحبل فكأنه مقلوب القماط . والله أعلم ) .
قلت : هذا كله كلام القرطبي وسكت على الحديث وما كان ينبغي له السكوت عليه فإنه شديد الضعف فإن سعيدا هذا أورده الذهبي في ( الميزان ) وسمى أباه زيادا - بالمثناة التحتية - وساق له أحاديث بإسناد هذا المذكور عن آبائه عن أبي هند مرفوعا :
( من لم يرض بقضائي فليطلب ربا سوائي ) . وبه :
( نعم الطعام الزبيب يشد العصب ويذهب الوصب ويطفئ الغضب ويطيب النكهة ويذهب البلغم ويصفي اللون ) . قال الأزدي :
( متروك . وساق ابن حبان له هذا وقال : لا أدري البلية ممن هي ؟ منه أو من أبيه أو جده ) .
قلت : والظاهر أن القناديل لم تكن معهودة الاستعمال في عهده عليه الصلاة والسلام لا في المساجد ولا في البيوت إلا أن يكون نادرا فإنه لم ينقل إلينا - فيما علمت - أي حديث يثبت ذلك . بل قد جاء ما ينفي ذلك في أحاديث :
الأول : عن عائشة قالت :
كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني . . . الحديث وفيه قالت عائشة : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح .
متفق عليه .
الثاني : عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه :
أنه عليه الصلاة والسلام كان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه .
متفق علي أيضا .
وهو ظاهر في أنه لم يكن في المساجد مصابيح يعرفون بها وجوه بعضهم بعضا ولذلك جعل انتهاء صلاته عليه الصلاة والسلام من الفجر حين ذهاب الغلس وابتداء انتشار النور الذي يكشف عن الوجوه . والله أعلم .
( راجع ( التراتيب الإدارية ) فصل : هل أوقدت الشموع في المدينة على عهده عليه الصلاة والسلام . ج 1 ص 85 ) .
ولكن ذلك لا ينفي مشروعية تنوير المسجد طالما أنه عليه الصلاة والسلام قد رغب إلى ذلك في الحديث السابق وعليه جرى العمل فيما بعد . وإنما قيدنا ذلك ( بما لا إسراف فيه ) لأن الإسراف لا خير فيه ولأنه من إضاعة المال سدى وقد نهينا عنه . فما اعتاده الناس من زيادة وقود القناديل الكثيرة من الأنوار الكهربائية في كثير من المساجد بمناسبة بعض المواسم والأعياد - كأول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان وشهر رمضان كله والعيدين - محرم ممنوع لا سيما في العيدين فإن الأنوار فيهما تبقى متقدة إلى الضحوة فيهما
وقد قال ابن الحاج رحمه الله في ( المدخل ) في أثناء الكلام على بدع ليلة النصف من شعبان ( 1/308 ) :
( ألا ترى إلى ما فعلوه من زيادة الوقود الخارج الخارق حتى لا يبقى في الجامع قنديل ولا شيء مما يوقد إلا أوقده حتى إنهم جعلوا الحبال في الأعمدة والشرفات وعلقوا فيها القناديل وأوقدوها وقد تقدم التعليل الذي لأجله كره العلماء رحمهم الله التمسح بالمصحف والمنبر والجدران . . . إلى غير ذلك إذ إن ذلك كان السبب في ابتداء عبادة الأصنام وزيادة الوقود فيه تشبه بعبدة النار في الظاهر وإن لم يعتقدوا ذلك لأن عبدة النار يوقدونها حتى إذا كانت في قوتها وشعشعتها اجتمعوا إليها بنية عبادتها وقد حث الشارع صلوات الله وسلامه على ترك تشبه المسلمين بفعل أهل الأديان الباطلة حتى في زيهم المختص بهم . وانضم على ذلك اجتماع كثير من النساء والرجال والولدان الصغار الذي يتنجس الجامع بفضلاتهم غالبا وكثرة اللغط واللغو الكثير مما هو أشد وأكثر وأعظم من ليلة السابع والعشرين من رجب وقد تقدم ما في ذلك من المفاسد وفي هذه الليلة أكثر وأشنع وأكبر وذلك بسبب زيادة الوقود فيها فانظر رحمنا الله وإياك إلى هذه البدع كيف يجر بعضها إلى بعض حتى ينتهي ذلك إلى المحرمات ) . ا . ه كلامه .
وفي ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ) ( ص 22 - 23 ) نقلا عن أبي بكر الطرطوشي رحمه الله أنه قال :
( ومما أحدثه المبتدعون وخرجوا به عما وسمه المتشرعون وجروا فيه على سنن المجوس واتخذوا دينهم لهوا ولعبا الوقيد ليلة النصف من شعبان ولم يصح فيها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نطق بالصلاة فيها والإيقاد صدوق من الرواة وما أحدثه [ إلا ] متلاعب بالشريعة المحمدية راغب في دين المجوسية لأن النار معبودهم . وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة فأدخلوا في دين الإسلام ما يموهون به على الطغام وهو جعلهم الإيقاد في شعبان كأنه من سنن الإيمان ومقصودهم عبادة النيران وإقامة دينهم وهو أخسر الأديان حتى إذا صلى المسلمون وركعوا وسجدوا كان ذلك إلى النار التي أوقدوا ومضت على ذلك سنون وأعصار تبعت بغداد فيها سائر الأمصار هذا مع ما يجتمع في تلك الليلة من الرجال والنساء واختلاطهم فالواجب على السلطان منعهم وعلى العالم ردعهم . وإنما شرف شعبان لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه فقد صح الحديث في صيامه صلى الله عليه وسلم شعبان كله أو أكثره ) .
ثم قال ابن أبي شامة ( ص 25 ) :
( فهذا كله فساد ناشئ من جهة المتنسكين المضلين فكيف بما يقع من فساد الفسقة المتردين وإحياء تلك الليلة بأنواع من المعاصي الظاهرة والباطنة وكلهم بسبب الوقيد الخارج عن المعتاد الذي يظن أنه قربة وإنما هو إعانة على معاصي الله تعالى وإظهار المنكر وتقوية لشعائر أهل البدع ولم يأت في الشريعة استحباب زيادة في الوقيد على قدر الحاجة في موضع ما أصلا وما يفعله عوام الحجاج يوم عرفة بجبال عرفات وليلة يوم النحر بالمشعر الحرام فهو من هذا القبيل يجب إنكاره ووصفه بأنه بدعة ومنكر وخلاف الشريعة المطهرة ) .
( 3 - أن يمشي إلى المسجد بالسكينة والوقار ولا يسرع لقوله عليه الصلاة والسلام :
( إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة ( زاد في حديث آخر : والوقار ) فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ) .
الحديث من رواية أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال : بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال : ( ما شأنكم ؟ ) قالوا : استعجلنا إلى الصلاة قال : ( فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة . . . ) الحديث .
أخرجه البخاري ( 2/92 ) ومسلم ( 2/100 - 101 ) والدارمي ( 1/294 ) والبيهقي ( 2/298 ) وأحمد ( 5/306 ) عن يحيى بن أبي كثير : أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره به . والزيادة في الحديث الآخر هي من حديث أبي هريرة وقد سبق لفظه في ( الإقامة ) في المسألة التاسعة مع ذكر طرقه فأغنى عن إعادته .
قال الترمذي ( 2/149 ) :
( اختلف أهل العلم في المشي إلى المسجد فمنهم من رأى الإسراع إذا خاف فوت التكبيرة الأولى حتى ذكر عن بعضهم أنه كان يهرول إلى الصلاة ومنهم من كره الإسراع واختار أن يمشي على تؤدة ووقار وبه يقول أحمد وإسحاق وقالا : العمل على حديث أبي هريرة وقال إسحاق : إن خاف فوت التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع في المشي ) .
أقول : الصواب كراهة الإسراع مطلقا فوت التكبير أو لا وقد سبق بيانه فيما تقدمت الإشارة إليه فليراجع هناك .
( 4 - يجب أن يدلك نعليه بالتراب إن أراد الدخول بهما إليه لقوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ) .
الحديث من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقد سبق بغير هذا اللفظ وهو لأبي داود وإسناده صحيح كما ذكرنا هناك في المسألة الثالثة من طهارة المكان .
( 5 - أن يبتدئ دخوله بالرجل اليمنى فإن ذلك من السنة كما قال أنس ابن مالك رضي الله عنه : ( من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى ) .
أخرجه الحاكم ( 1/218 ) ومن طريقه البيهقي ( 2/ ) عن شداد أبي طلحة قال : سمعت معاوية بن قرة يحدث عنه به واختلفا فيه فقال الحاكم :
( صحيح على شرط مسلم فقد احتج بشداد بن سعيد أبي طلحة الراسبي ) ووافقه الذهبي .
وخالفه تلميذه البيهقي فقال :
( تفرد به شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي وليس بالقوي ) .
والحق ما قاله الحاكم أنه على شرط مسلم لكن الراسبي هذا متكلم فيه فينزل حديثه عن رتبة الصحيح إلى منزلة الحسن فقد قال فيه الذهبي إنه :
( صالح الحديث ) . وقال الحافظ في ( التقريب ) :
( إنه صدوق يخطيء ) .
وأورده حديثه هذا في ( الفتح ) ( 1/415 ) ولم يضعفه فالحديث حسن .
وله شاهد موقوف فقال البخاري :
( باب التيمن في دخول المسجد وغيره : وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى ) .
هكذا أخرجه تعليقا . وقال الحافظ :
( ولم أره موصولا ) .
والقسم الأول منه يؤيده عموم حديث عائشة رضي الله عنه قالت :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله .
أخرجه البخاري ( 1/216 و415 ) ومسلم ( 1/155 - 156 ) .
وقد احتج به البخاري في هذا الباب .
وقال الحافظ بعد أن ساق حديث أنس السابق :
( والصحيح أن قول الصحابي : من السنة كذا محمول على الرفع لكن لما لم يكن حديث أنس على شرط المصنف أشار إليه بأثر ابن عمر وعموم حديث عائشة يدل على البداءة باليمين في الخروج من المسجد أيضا ويحتمل أن يقال : في قولها : ما استطاع احترازا عما لا يستطاع فيه التيمن شرعا كدخول الخلاء والخروج من المسجد وكذا تعاطي الأشياء المستقذرة باليمين كالاستنجاء والتمخط وعلمت عائشة رضي الله عنه حبه صلى الله عليه وسلم لما ذكرت إما بإخباره لها بذلك وإما بالقرائن ) .
( 6 - أن يقول عند الدخول استحبابا : ( أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ) قال عليه الصلاة والسلام : ( فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم ) .
الحديث أخرجه أبو داود ( 1/76 ) من طريق عقبة بن مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال . . . فذكره وفي آخره قوله المذكور : فإذا قال ذلك . . . إلخ .
وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير عقبة بن مسلم هذا وإسماعيل بن بشر بن منصور شيخ أبي داود فيه وهما ثقتان وقال النووي في ( الأذكار ) :
( حديث حسن إسناده جيد ) .
قلت : وعزاه الحافظ ابن كثير في ( تفسيره ) ( 3/293 ) ل ( صحيح البخاري ) وذلك وهم منه رحمه الله .
( ويقول أيضا كما كان عليه الصلاة والسلام يقول : ( بسم الله اللهم صل على محمد وسلم اللهم افتح لي أبواب رحمتك ) .
جاء هذا في أحاديث :
الأول : عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال : ( بسم الله اللهم صل على محمد وإذا خرج قال : بسم الله اللهم صل على محمد ) .
أخرجه ابن السني في ( عمل اليوم والليلة ) ( ص 31 رقم 86 ) قال : ثني الحسن بن موسى الرسعني : ثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي : ثنا إبراهيم بن محمد بن البحتري - شيخ صالح بغدادي - : ثنا عيسى بن يونس عن معمر عن الزهري عنه .
وهذا سند حسن أو محتمل للتحسين .
الحسن بن موسى هو ابن ناصح بن يزيد أبو سعيد الخفاف قال الخطيب ( 7/429 ) :
( قدم بغداد وحدث بها عن ابن سليمان وسعيد بن عبد الملك الحراني والحسن بن عمر بن شقيق البلخي وعقبة بن مكرم الضبي روى عنه محمد ابن خلف بن وكيع ويحيى بن محمد بن صاع ومحمد بن مخلد وعبيد الله ابن عبد الرحمن السكري وأبو ذر القراطيسي ) .
ثم ساق له حديثا واحدا من طريق سعيد بن عبد الملك الحراني : ثنا الوليد ابن مسلم عن أبي إسحاق الفزاري عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال فقال : يا بلال ناد في الناس أن الخليفة من بعد عمر عثمان قال : فرفع رأسه إلى السماء ثم قال : يا بلال امض أبى الله إلا ذلك . ثلاث مرات ) .
ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا . وقد روى عنه جمع من الثقات كما رأيت لكن هذا الحديث منكر جدا بل موضوع لكن الحمل فيه ليس عليه بل على شيخه سعيد بن عبد الملك الحراني ففي ترجمته أورده الذهبي من طريق الخطيب ثم قال :
( فهذا موضوع والرسعني إن شاء الله محله الصدق ) .
وإبراهيم بن الهيثم البلدي قال الخطيب ( 6/207 ) :
( ثقة ثبت لا يختلف شيوخنا فيه ) .
وبقية رجال الإسناد ثقات رجال الستة غير إبراهيم بن محمد بن البحتري فلم أجد من ذكره ولم يورده الخطيب في ( تاريخه ) بالرغم من كونه على شرطه وقد وثق في هذه الرواية كما ترى . والله أعلم .
الثاني : عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال : ( رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ) وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال : ( رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ) .
أخرجه الترمذي ( 2/127 - 128 ) وابن ماجه ( 1/259 ) وأحمد ( 6/282 - 283 و283 ) من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى رضي الله عنها واللفظ للترمذي وأحمد وزادا : قال إسماعيل بن إبراهيم : فلقيت عبد الله بن الحسن بمكة فسألته عن هذا الحديث فحدثني به قال : ( كان إذا دخل قال : رب افتح لي باب رحمتك وإذا خرج قال : رب افتح لي باب فضلك ) .
ولفظ ابن ماجه مثل لفظهما إلا أنه قال : ( بسم الله والسلام على رسول الله ) بدل : ( صلى الله على محمد وسلم ) . في الموضعين . وهو رواية لأحمد .
وأخرجه ابن السني ( ص 31 رقم 85 ) من طريق سعير بن الخمس عن عبد الله بن الحسن به بلفظ :
حمد الله وسمى .
في الموضعين أيضا والباقي مثله سواء .
وذكر الحمد فيه شاذ بل منكر فإنه من رواية إبراهيم بن يوسف الكندي عن سعير وهو وإن كان صدوقا عند مطين وغيره فقد قال النسائي :
( ليس بالقوي ) .
ولذلك قال الحافظ في ( التقريب ) :
( صدوق فيه لين ) .
فلا يحتج بما تفرد به .
ثم إن الحديث قال الترمذي إنه :
( حديث حسن وليس إسناده بمتصل وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى إنما عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشهرا ) .
قلت : فالإسناد ضعيف لانقطاعه وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده التي نحن بصدد ذكرها والله أعلم .
وبعد كتابة ما تقدم وجدت لإبراهيم بن يوسف الكندي متابعا على ذكر الحمد فيه وهو عبد العزيز بن محمد الدراوردي فقال أبو العباس الثقفي : ثنا أبو رجاء : ثنا قتيبة بن سعيد : ثنا عبد العزيز - هو ابن محمد - عن عبد الله بن حسن عن أمه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة ابنته رضي الله عنها :
( إذا دخلت المسجد فقولي : بسم الله والحمد لله اللهم صل على محمد وسلم اللهم اغفر لي وسهل لي أبواب رحمتك . فإذا خرجت من المسجد فقولي كذلك إلا أنه قال : وسهل لي أبواب رزقك ) 52 .
فقد تابعه عبد العزيز بن محمد وزاد عليه وعلى من سبق أنه جمع بين الحمد والتسمية وبين الصلاة والسلام وهذه مخالفة .
الثانية من الدراوردي وهو وإن كان ثقة واحتج به مسلم ففيه شيء قال في ( التقريب ) :
( صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطئ ) .
فلا يحتج به أيضا إذا خالف الثقات مثل إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن علية الثقة الحافظ .
وقد أخطأ الدراوردي خطأ آخر حيث إنه جعل الحديث من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة بينما الحديث من روايتها عنه صلى الله عليه وسلم من فعله كما رواه سائر الرواة فتنبه .
الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ :
( إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم ) .
أخرجه ابن ماجه ( 1/260 ) والحاكم ( 1/207 ) وعنه البيهقي ( 2/442 ) وابن السني ( ص 31 رقم 84 ) من طريق أبي بكر الحنفي : ثنا الضحاك بن عثمان : ثني سعيد المقبري عنه . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط الشيخين ) . ووافقه الذهبي .
وليس كما قالا وإنما هو على شرط مسلم وحده فإن الضحاك بن عثمان لم يخرج له البخاري .
والحديث رواه ابن خزيمة أيضا وابن حبان في ( صحيحهما ) كما في ( الجلاء ) ( ص 262 ) و( تفسير ابن كثير ) ( 3/294 ) وعزاه الشوكاني في ( تحفة الذاكرين ) ( ص 94 ) لمسلم وهو وهم منه أو سبق قلم وقال في ( الزوائد ) :
( إسناده صحيح رجاله ثقات ) .
الرابع : عن أبي حميد أو عن أبي أسيد مرفوعا بلفظ :
( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك ) .
أخرجه مسلم ( 2/155 ) والدارمي ( 2/293 ) والبيهقي ( 2/441 ) من طرق عن سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد عن أبي حميد أو عن أبي أسيد .
وقد تابعه عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة به على الشك .
أخرجه أبو داود ( 1/76 ) والدارمي ( 1/324 ) والبيهقي .
وعمارة بن غزية عند مسلم والبيهقي عن بشر بن مفضل عنه .
وخالفه إسماعيل بن عياش بن عمارة بن غزية فقال : عن أبي حميد وحده .
أخرجه ابن ماجه ( 1/259 ) .
وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن الحجازيين وهذه منها .
وهو من الطريق الأولى عند النسائي ( 1/119 ) وأحمد ( 3/497 و5/425 ) عن أبي عامر قال : ثنا سليمان بن بلال به إلا أنه قال : سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولان : فجمعهما معا . ولعل الرواية الأولى أقرب إلى الصواب وأولى لأن أكثر الرواة عن سليمان بن بلال عليها ولأنه قد تابعه الدرواردي عليها بدون خلاف عليه وليس كذلك الروايات الأخرى . والله أعلم .
هذا وعند أبي داود وابن ماجه والدارمي في رواية والبيهقي زيادة : ( فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ) في الدخول فقط .
وكذلك رواه أبو عوانة في مسنده الصحيح ( ج 1 ص 414 ) بنحو رواية أبي داود وزاد فيه : ( وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ) كما في ( نزل الأبرار ) ( ص 72 ) .
وعلى هذا فهو مثل حديث أبي هريرة تماما .
وهما يفيدان وجوب هذا الذكر ولذلك قلنا :
( وهذا الدعاء واجب لأمره عليه الصلاة والسلام به في قوله : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم أجرني من الشيطان الرجيم ) .
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه .
وله شاهد من حديث أبي حميد أو أبي أسيد رضي الله عنه وقد سبق تخريجهما آنفا .
قال النووي في ( شرح مسلم ) :
( فيه استحباب هذا الذكر ) .
قلت : القول : بالاستحباب فقط يحتاج إلى دليل يخرج الأمر المفيد بظاهره الوجوب إلى الاستحباب ولا دليل فيما علمنا . ولو كان هناك أي دليل لذكره النووي نفسه أو غيره ولذلك ذهب إلى وجوبه الإمام ابن حزم فقال في ( المحلى ) ( 4/60 ) :
( وواجب على من دخل المسجد أن يقول : اللهم افتح لي أبواب رحمتك فإذا خرج منه فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك . وهذا إنما هو من شروط دخول المسجد متى دخله لا من شروط الصلاة فصلاة من لم يقل ذلك جائزة وقد عصى في تركه قوله ما أمر به ) .
ثم ساق الحديث من طريق مسلم عن أبي حميد أو أبي أسيد . ولم تقع في رواية مسلم : فليسلم . كما سبقت الإشارة إليه وكأن ابن حزم لم يقف عليها في الروايات الأخرى ولا على حديث أبي هريرة الذي فيه الزيادتان وإلا لذكرهما ولقال بوجوب السلام أيضا .
ثم إن ظاهر الحديث يفيد وجوب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقط دون الصلاة عليه فإنها مستحبة لثبوتها من فعله عليه الصلاة والسلام كما سبق إلا أنه قد يقال : إن السلام فيه مجمل وقد بينه عليه الصلاة والسلام بفعله حيث كان يجمع بين الصلاة والسلام وذلك هو مقتضى قوله تعالى :

?? ???? ???????? ????? ??? ????? ?? ساقط من البرنامج ????? ????? ???? ???? ?????? ??????

إلخ . وإسناده ضعيف وهو كما ترى من أوراد دخول الدار لا المسجد ولذلك ترجم له أبو داود ب ( باب ما جاء فيمن دخل بيته ما يقول ) فالظاهر أن شيخ الإسلام قد وهم في جعله من أوراد دخول المسجد ولم أجد من ذكر ذلك غيره نعم علق بعضه شيخ الإسلام عن ابن سيرين : كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد فذكر الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وبسم الله دخلنا وبسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك .
( 7 - أن يصلي ركعتين قبل القعود وجوبا لقوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ) وفي لفظ : ( فلا يجلس حتى يركع ركعتين [ ثم ليقعد بعد إن شاء أو ليذهب لحاجته ] ) .
الحديث من رواية أبي قتادة الأنصاري .
أخرجه مالك في ( الموطأ ) ( 1/176 ) ومن طريقه محمد ( ص 150 ) وكذا البخاري ( 1/426 ) ومسلم ( 2/155 ) وأبو داود ( 1/76 ) والنسائي ( 1/119 ) والترمذي ( 2/129 ) وقال : حسن صحيح والدارمي ( 1/323 ) وابن ماجه ( 1/317 ) والطحاوي ( 1/217 ) وأحمد ( 5/295 و303 ) والخطيب ( 5/236 و12/318 ) كلهم من طريق مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم الزرقي عنه .
وتابعه عن عامر : عبد الله بن سعيد عند البخاري ( 3/37 ) واللفظ الثاني له وأبو عميس عتبة بن عبد الله عند أبي داود وأحمد ( 5/311 ) والزيادة له عند الأول منهما بإسناد صحيح على شرطهما وفليح بن سليمان عند الدارمي وعثمان بن أبي سليمان ومحمد بن عجلان عند الطحاوي وأحمد ( 5/296 و305 ) ويحيى بن سعيد الأنصاري عند الطبراني في ( الصغير ) ( ص 76 ) باللفظ الثاني أيضا كلهم قالوا : عن عامر بن عبد الله عن عمرو بن سليم عن أبي قتادة .
وخالفهم سهيل بن أبي صالح فقال : عن عامر بن عبد الله عن عمرو بن سليم الزرقي عن جابر بن عبد الله مرفوعا به .
أخرجه الطحاوي والخطيب ( 3/47 ) وقال :
( وهو وهم خالف سهيل الناس في روايته والصواب : عن أبي قتادة ) .
وذكر نحوه الترمذي وحكاه عن ابن المديني .
قلت : وحديث جابر إنما هو في الصلاة في المسجد عند القدوم من السفر كما يأتي إن شاء الله تعالى .
وتابع عامرا : محمد بن يحيى بن حبان عن عمرو بن سليم بن خلدة الأنصاري عن أبي قتادة قال : دخلت المسجد . . . الحديث ويأتي في الأصل .
أخرجه مسلم وأحمد باللفظ الثاني . وفيه فائدة سبب ورود الحديث وهي عزيزة .
وله طريق أخرى بلفظ آخر فقال الحافظ بعد أن ذكر سبب الورود :
( وعند ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي قتادة : أعطوا المساجد حقها . قيل له : وما حقها ؟ قال : ركعتين قبل أن تجلس ) .
قلت : وقد أخرجه الخطيب من طريق عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه مرفوعا بلفظ :
( إذا دخلت المسجد فحيه ركعتين قبل الإمام ) .
وإسناده ضعيف فيه جماعة لا يعرفون .
وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا مثل رواية عبد الله بن سعيد .
أخرجه ابن ماجه من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله عنه . وفي ( الزوائد ) :
( رجاله ثقات إلا أنه منقطع قال أبو حاتم : المطلب بن عبد الله عن أبي هريرة مرسل ) .
والحديث دليل بظاهره على وجوب ركعتي تحية المسجد لأنه في الرواية الأولى أمر بهما والأمر للوجوب وفي الأخرى نهى عن الجلوس قبل الصلاة وذلك يفيد التحريم وقد ذهب إلى هذا الظاهرية حاشا ابن حزم منهم فإنه صرح في ( المحلى ) بأنها سنة وهو قول الجمهور وأجابوا عن الحديث بأن الأمر فيه للندب واحتجوا على ذلك بأدلة لا تنهض بما ادعوه وقد ساقها المحقق الشوكاني وتعقبها مبينا عدم صلاحيتها لصرف الأمر من الوجوب إلى الندب من ذلك على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى :
( اجلس فقد آذيت ) ولم يأمره بصلاة . قال الحافظ :
( كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر ) . قال الشوكاني :
( ولعل وجهه أنه لا مانع له من أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه أو أنه كان ذلك قبل الأمر بها والنهي عن تركها ) .
وهكذا كل ما احتجوا به لا دليل فيه فانظر تفصيل ذلك في ( نيل الأوطار ) .
( وهذه الصلاة تعرف ب ( تحية المسجد ) 53 وهي لا تفوت بالجلوس ولو بدون عذر النسيان ونحوه يدل لذلك سبب ورود الحديث فقال أبو قتادة رضي الله عنه :
دخلت مسجد رسول الله بين ظهراني الناس قال : فجلست فقال رسول الله : ( ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس ؟ ) قال : فقلت : يا رسول الله رأيتك جالسا والناس جلوس قال . . . فذكر الحديث ) .
الحديث رواه مسلم وأحمد كما سبق قريبا .
وفي الباب عن جابر ويأتي بعد هذا .
وعن أبي ذر :
أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
( أركعت ركعتين ؟ ) . قال : لا قال :
( قم فاركعهما ) .
رواه ابن حبان في ( صحيحه ) كما في ( الفتح ) .
قلت : وقد أخرجه أيضا الطيالسي وأحمد من طريق المسعودي عن أبي عمرو الشامي عن عبيد بن الخشخاش عنه .
وهذا سند ضعيف المسعودي كان قد اختلط .
وشيخه أبو عمرو ويقال : أبو عمر : ضعيف .
وعبيد بن الخشخاش - بمعجمات وقيل : بمهملات - لين كما في ( التقريب ) .
والحديث رواه البزار أيضا والطبراني في ( الأوسط ) كما في ( المجمع ) وقال :
( وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط ) .
قلت اقتصر على هذا في تضعيف الحديث وهو قصور ولو أنه أضاف إليه شيخه ومن فوقه أو اقتصر عليهما لكان أولى لما عرفت من حالهما والمسعودي خير منهما .
وهذا الحديث ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس . وقال الحافظ :
( صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس لا يشرع له التدارك وفيه نظر لحديث ابن حبان هذا ومثله قصة سليك كما سيأتي وقال المحب الطبري : يحتمل أن يقال : وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز أو يقال : وقتهما قبله أداء وبعده قضاء ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل ) .
قلت : وهذا الاحتمال الأخير هو الأقرب لأنه عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث بادر إلى الأمر ولم يؤجل . والله أعلم .
ثم إن الحديث يدل بعمومه على جواز تحية المسجد في الأوقات المكروهة وقد اختلف العلماء في ذلك والأرجح ما أفاده عموم الحديث لأنه لم يأت ما يقوى على تخصيصه كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه وتفصيله .
( وكذلك فإنها لا تسقط عن الداخل يوم الجمعة والخطيب على المنبر يخطب بل لا بد من الإتيان بها غير أن يخففها فقد :
جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس [ قبل أن يصلي ] فقال له : يا سليك [ أصليت ركعتين ؟ قال : لا قال : ]
( قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما ) ( زاد في حديث آخر : فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ) ثم [ أقبل على الناس ف ] قال :
( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين [ خفيفتين ] يتجوز فيهما [ ثم ليجلس ] ) .
الحديث ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنه مطولا ومختصرا فمنهم :
( 1 ) جابر بن عبد الله الأنصاري وحديثه أتم وله عنه طرق أكملها وأتمها الطريق :
1 - الأعمش عن أبي سفيان عنه .
أخرجه مسلم والسياق له وأبو داود وابن ماجه والطحاوي وأحمد والزيادتان الأخيرتان لهما .
وقد تابعه الوليد أبو بشر عن سفيان واسمه طلحة الإسكاف وفيه الزيادة التي قبلهما .
أخرجه أبو داود وأحمد والدارقطني .
2 - عمرو بن دينار عنه مختصرا :
جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة يخطب فقال له :
( أركعت ركعتين ؟ ) قال : لا قال : ( فاركع ) .
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والطحاوي وأحمد من طرق عنه وبعض أسانيده عند أحمد ثلاثي .
ورواه شعبة عن عمرو بن دينار قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب :
( إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصل ركعيتن ) .
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والدارمي والطحاوي والطيالسي وأحمد والدارقطني 54 .
3 - عن الليث عن أبي الزبير عن جابر :
نحو رواية عمرو بن دينار وزاد تسمية الرجل سليكا وفيه الزيادة الأولى . أخرجه مسلم وكذا الطحاوي .
وتابعه يزيد بن إبراهيم عن أبي الزبير .
أخرجه الطحاوي وأحمد وزاد : قال : قال : وكان جابر يقول : إن صلى في بيته يعجبه إذا دخل أن يصليهما .
( 2 ) ومنهم سليك نفسه .
رواه هشام بن حسان عن الحسن عنه أنه جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة فقال له : ( أركعت ركعتين ؟ ) قال : لا قال : ( صل ركعتين وتجوز فيهما ) .
أخرجه الطحاوي : ثنا يزيد بن سنان قال : ثنا صفوان بن عيسى قال : ثنا هشام بن حسان .
وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين غير يزيد بن سنان وشيخه صفوان وهما ثقتان كما في ( التقريب ) إن كان الحسن - وهو البصري - سمعه من سليك .
وقد ورد عنه مرسلا فقد قال الربيع بن صبيح البصري : رأيت الحسن يصلي ركعتين والإمام يخطب . وقال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين يتجوز فيهما ) .
أخرجه الدارمي عن سفيان الثوري عنه .
والربيع بن صبيح صدوق سيء الحفظ كما في ( التقريب ) .
وقد تابعه في الموقوف منه العلاء بن خالد القرشي قال :
رأيت الحسن البصري دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فصلى ركعتين ثم جلس .
أخرجه الترمذي ثم قال :
( إنما فعل الحسن اتباعا للحديث وقد روى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ) . والعلاء هذا رماه أبو سلمة ( التبوذكي ) بالكذب وتناقض فيه ابن حبان .
( 3 ) ومنهم أبو هريرة .
أخرجه أبو داود وابن ماجه من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر وعن أبي صالح عن أبي هريرة به نحو حديث سليك نفسه .
وهذا سند صحيح على شرط مسلم .
وحديثه عن أبي سفيان عن جابر تقدم .
( 4 ) ومنهم أبو سعيد الخدري .
وله طريقان :
1 - عن محمد بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح :
أن أبا سعيد الخدري دخل يوم الجمعة ومروان يخطب فقام يصلي فجاء الحرس ليجلسوه فأبى حتى صلى فلما انصرف أتيناه فقلنا : رحمك الله إن كادوا ليقعوا بك فقال : ما كنت لأتركهما بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ذكر أن رجلا جاء يوم الجمعة في هيئة بذة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فأمره فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب .
أخرجه الترمذي واللفظ له والنسائي واحمد من طرق عنه . وأخرجه كذلك الطحاوي وابن خزيمة وابن حبان كما في ( الفتح ) ورواه الدارمي وابن ماجه مختصرا .
والإسناد حسن . وقال الترمذي :
( حديث حسن صحيح ) .
2 - عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي سعيد الخدري أنه قال :
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فدخل أعرابي ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فجلس الأعرابي في آخر الناس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
( أركعت ركعتين ؟ ) قال : لا .
قال : فأمره فأتى الرحبة التي عند المنبر فركع ركعتين .
أخرجه أحمد .
وإسناده حسن في المتابعات والشواهد .
ثم قال الترمذي :
( والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وقال بعضهم : إذا دخل والإمام يخطب فإنه يجلس ولا يصلي . وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة والقول الأول أصح ) .
قلت : وبه قال الدارمي أيضا صاحب ( السنن ) وهو كما قال الترمذي رحمه الله أنه الأصح وقد تكلف الإمام الطحاوي رحمه الله كثيرا في رد هذا النص الصريح وغاية ما احتج به من النقل هو قوله عليه الصلاة والسلام :
( إذا قلت لصاحبك : أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ) وذلك لأن الأمر بالمعروف أعلى من ركعتي التحية فإذا منع منه منع منهما بالأولى .
هذه هي وجهة نظر الحنفية في احتجاجهم بالحديث المذكور كما قرره السندي ولكنه رحمه الله لم يرتض ذلك بل رده بقوله :
( وفيه بحث : أما أولا : فلأنه استدلال بالدلالة أو القياس في مقابلة النص فلا يسمع . وأما ثانيا : فلأن المضي في الصلاة لمن شرع فيها قبل الخطبة جائز بخلاف المضي في الأمر بالمعروف لمن شرع فيه قبل فكما لا يصح قياس الصلاة بالأمر بالمعروف بقاء لا يصح ابتداء . والله تعالى أعلم ) .
قلت : ونحن لا نسلم أن الأمر أعلى من تحية المسجد بل نقول العكس وهو ظاهر النص أي : إن التحية أعلى من الأمر بالمعروف في ذلك الوقت ولذلك أمر بها دون هذا وذلك من أدلة وجوبها كما سبق تقريره قريبا . فتأمل .
ولوضوح الحجة في هذه المسألة أمسك عن التعرض لبقية الوجوه والآراء المشار إليه آنفا ونقضها وأحيل من أراد الاطلاع عليها بتوسع وبسط على ( فتح الباري ) و( نيل الأوطار ) وإنما أنبه هنا على ما روي مرفوعا مما لو صح لكان حجة للحنفية وهو ما أخرجه الطبراني في ( الكبير ) عن ابن عمر مرفوعا :
( إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام ) . قال الهيثمي ( 2/184 ) :
( وفيه أيوب بن نهيك وهو متروك ضعفه جماعة وذكره ابن حبان في الثقات وقال : يخطيء ) .
وأشار الحافظ في ( الفتح ) لضعفه .
وأورده صاحب ( الهداية ) مرفوعا بلفظ :
( إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام ) . وقال مخرجه الزيلعي :
( قلت : غريب مرفوعا قال البيهقي : رفعه وهم فاحش إنما هو من كلام الزهري ) . ثم قال ( ص 204 ) :
( وذكرأبو محمد عبد الحق في ( أحكامه ) قال : وروى أبو سعيد الماليني في كتابه عن محمد بن أبي مطيع عن أبيه عن محمد بن جابر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي مرفوعا : لا تصلوا والإمام يخطب ) .
وسكت عليه الزيلعي ولعله لظهور ضعفه فالحارث هذا هو الأعور وهو ضعيف .
وكذلك محمد بن جابر - وهو السحيمي - وأبو مطيع - وهو البلخي واسمه الحكم بن عبد الله - كلهم ضعفاء ولذلك قال الحافظ في ( الدراية ) :
( وإسناده واه ) .
( 1 ) بل صرح بذلك حيث قال : ( ضعيف فيه أيوب بن نهيك وهو منكر الحديث قاله أبو زرعة وأبو حاتم ) .
( 8 - أن يبدأ به فيصلي فيه صلاة القدوم من السفر فقد :
( كان عليه الصلاة والسلام إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس ) .
الحديث من رواية كعب بن مالك رضي الله عنه .
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والدارمي وأحمد من طريق عبد الله بن كعب وعبيد الله بن كعب عنه . وهو طرف من حديثه الطويل في قصة تخلفه عن غزوة تبوك وتوبته .
وله شاهد من حديث ابن عمر :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من حجته دخل المدينة فأناخ على باب مسجده ثم دخل فركع فيه فركعتين ثم انصرف إلى بيته .
قال نافع : فكان ابن عمر كذلك يصنع .
رواه أبو داود وأحمد عن ابن إسحاق : ثني نافع عن ابن عمر .
وهذا سند حسن :
وآخر من حديث أبي ثعلبة بلفظ :
كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يثني بفاطمة ثم يأتي أزواجه . وفي لفظ :
ثم بدأ ببيت فاطمة ثم أتى بيوت نسائه .
رواه الطبراني وغيره كما في ( الفتح ) وفي نسختنا بياض مكان الغير .
والحديث الأول ظاهره أن الصلاة هذه كانت لأجل الجلوس في المسجد لا للقدوم من السفر لكن شاهداه صريحان - لا سيما الأخير منهما - بأنها كانت للقدوم من السفر ومثله حديث جابر الآتي في الأعلى . ولذلك قال النووي في ( شرح مسلم ) تعليقا عليه وعلى حديث كعب :
( في هذه الأحاديث استحباب ركعتين للقادم من سفره في المسجد أول قدومه وهذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر لا أنها تحية المسجد والأحاديث المذكورة صريحة فيما ذكرته ) .
وقال ابن القيم في صدد ذكره الحكم والفوائد التي اشتملت عليها قصة الثلاثة الذين خلفوا :
( ومنها أن السنة للقادم من السفر أن يدخل البلد على وضوء وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس للمسلمين عليه ثم ينصرف إلى أهله ) .
( وقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك فينبغي الاهتمام به فقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : ( كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا المدينة قال لي : ائت المسجد فصل فيه ركعتين [ قال : فدخلت فصليت ثم رجعت ] ) ] .
الحديث أخرجه الطيالسي : ثنا شعبة عن محارب ابن دثار قال : سمعت جابرا يقول . . . . فذكره .
وهذا سند صحيح غاية .
وقد أخرجه البخاري ومسلم وأحمد من طرق عن شعبة به .
وقد تابعه مسعر : ثنا محارب به نحوه .
أخرجه البخاري وأحمد .
وتابعه وهب بن كيسان عن جابر نحوه وفيه الزيادة .
أخرجه مسلم .
وظاهر الأمر يفيد وجوب صلاة القدوم من السفر في المسجد لكني لا أعلم أحدا من العلماء ذهب إليه فإن وجد من قال به صرنا إليه . والله أعلم .
( 9 - أن يبدأ الخروج منه بالرجل اليسرى عكس الدخول فإنه من السنة كما سبق هناك ) .
في الدخول إلى المسجد فقرة ( 5 ) فراجعه .
( 10 - وأن يقول عند ذلك : ( بسم الله اللهم صل على محمد وسلم اللهم إني أسألك من فضلك ) وتارة يقول : ( اللهم اعصمني ( وفي لفظ : أجرني وفي آخر : أعذني ) من الشيطان الرجيم ) وهذا كله واجب قوله للأمر به كما مضى ) . في الفقرة السادسة .
وتنبه هنا على ما لا بد منه وهو :
أن اللفظ الأول : ( اعصمني ) هو رواية ابن ماجه وكذا ابن السني في رواية .
واللفظ الثاني : ( أجرني ) رواية الحاكم والبيهقي .
والثالث : ( أعذني ) رواية لابن السني .
والظاهر أنه اختلاف من الرواة فيأتي مرة بهذا وبهذا لأنه لم يترجح عندي الأصح منها .
( 11 - أن يخرج منه وفي نيته أن يعود إليه لعله يصير من السبعة الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم :
( سبعة يظلهم الله [ يوم القيامة ] في ظله ( وفي حديث آخر : ظل عرشه ) يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل [ حتى توفي على ذلك ] ورجل قلبه معلق بالمسجد ( وفي لفظ : كأنما قلبه معلق في المسجد زاد في الحديث الآخر : من حبها ) إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ورجل ذكر الله خاليا ( وفي لفظ : في خلأ ) ففاضت عيناه [ من خشية الله ] ورجل دعته امرأة ذات حسب ( وفي لفظ : ذات منصب ) وجمال [ إلى نفسها ] فقال : إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ( وفي لفظ : تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه من شماله ) .
الحديث أخرجه مالك في ( الموطأ ) ومن طريقه الترمذي وقال : ( حسن صحيح ) ومسلم أيضا والبيهقي في ( الأسماء والصفات ) كلهم عنه عن خبيب بن عبد الرحمن الأنصاري عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد الخدري أو عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكره على الشك بين أبي سعيد وأبي هريرة .
وقد رواه عبيد الله بن عمر عن خبيب به فقال : ( عن أبي هريرة ) وحده .
أخرجه البخاري وله الزيادة الأولى وكذا النسائي ومسلم والترمذي وصححه أيضا وأحمد من طرق عنه نحوه وفيه عند الجميع اللفظ الثالث وعند البخاري والنسائي اللفظ الثاني .
وزاد حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر الزيادة الثانية وعنده اللفظ الأول والرابع وهو الأخير .
أخرجه الجوزقي كما في ( الفتح ) . والزيادة الرابعة وهي الأخير أيضا عند البخاري والنسائي وأحمد والزيادة الثالثة عند الجوزقي وكذا الثانية .
والحديث أخرجه أيضا الطيالسي والخطيب من طريق المبارك بن فضالة قال الأول : عن خبيب بن عبد الرحمن وقال الآخرون : عن عبيد الله عن خبيب به نحوه .
وفيه عند الأول الزيادة الثالثة وعند الآخر اللفظ الثاني وعند الأول : ( حتى يرجع إليه ) بدل قوله : ( إذا خرج منه حتى يعود إليه ) .
وأخرجه البيهقي في ( الأسماء ) من طريق جعفر بن محمد بن الليث : ثنا عمر بن مرزوق : أنا شعبة عن خبيب به مع اختلاف في بعض الجمل لفظا ومعنى وقال : ( تحت عرشه ) .
وجعفر بن محمد بن الليث ضعيف لكن لم يتفرد بذكر العرش فيه فقد قال البيهقي :
( وروي لفظ العرش في الحديث المرفوع ) ثم ساق هذا الحديث ثم قال :
( وروي ذلك أيضا عن عبد الله بن عمر بن حفص عن خبيب وروي أيضا عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ) .
قلت : وقد وجدت له طريقا ثالثا عن أبي هريرة أخرجه الخطيب من طريق عبد الله بن عامر الأسلمي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعا بلفظ :
( تحت ظل عرشه ) .
وعبد الله بن عامر الأسلمي ضعيف .
ومن طريق أخرجه البيهقي في ( الشعب ) كما في ( الفتح ) ولم يسق لفظه ثم قال :
( وعبد الله بن عامر ضعيف لكنه ليس بمتروك وحديثه حسن في المتابعات ) .
قلت : ويقويه الحديث الآخر المشار إليه والذي فيه هذه الزيادة وهو من حديث سلمان عن سعيد بن منصور بإسناد حسن موقوفا عليه . قال الحافظ :
( لكن حكمه الرفع ) .
قلت : ورواه البيهقي أيضا من طريق قتادة أن سلمان قال :
( التاجر الصدوق مع السبعة في ظل عرش الله تعالى يوم القيامة ) ثم ذكر السبعة المذكورين في الخبر المرفوع .
وفي ( الجامع الصغير ) حديث : ( سبعة في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله . . . ) الحديث وفيه :
( ورجل قلبه معلق بالمساجد من شدة حبه إياها . . . ) الحديث .
رواه ابن زنجويه عن الحسن مرسلا وابن عساكر عن أبي هريرة .
وبالجملة فهذه الزيادات التي أوردناها في صلب الحديث ثابتة في مجموع طرق الحديث وهي تكشف المعنى أو نحوه وتدفع الاختلاف الذي قد يدور حوله كما يتبين لك ذلك بمراجعة الشروح .
والمقصود من إيراد الحديث هنا هو قوله عليه الصلاة والسلام :
( ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ) . قال المناوي :
( كنى به عن التردد إليه في جميع أوقات الصلاة فلا يصلي صلاة إلا في المسجد ولا يخرج منه إلا وهو ينتظر أخرى ليعود فيصليها فيه فهو ملازم للمسجد بقلبه فليس المراد دوام الجلوس فيه ) .
( 12 - والأفضل لمن كان فارغا لا عمل له أو كان غنيا عن الكسب أن يبقى فيه انتظارا للصلاة الأخرى فإن فيه فضلا عظيما لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من جلس في المسجد ينتظر الصلاة فهو في الصلاة ) .
الحديث رواية سهل بن سعد الساعدي .
أخرجه النسائي وأحمد من طريق عياش بن عقبة قال : ثني يحيى بن ميمون قال : وقف علينا سهل بن سعد فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول . . . فذكره :
واللفظ لأحمد وقال النسائي :
( كان ) بدل : ( جلس ) .
وهذا إسناد جيد : عياش بن عقبة وشيخه يحيى بن ميمون قال النسائي في كل منهما :
( لا بأس به ) وفي ( التقريب ) أنهما :
( صدوقان ) .
( وقوله : ( منتظر الصلاة من بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كشحه ) ( أي : عدوه ) تصلي عليه ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم وهو في الرباط الأكبر ) .
هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
أخرجه أحمد من طريق نافع بن سليمان عن عبد الرحمن بن مهران عنه .
وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم رجال مسلم غير نافع بن سليمان وقد وثقه ابن معين وقال أبو حاتم :
( صدوق ) كما في ( التعجيل ) . وفي ( الترغيب ) :
( رواه أحمد والطبراني في ( الأوسط ) وإسناد أحمد صالح ) .
قلت : ويشهد له الحديث الذي بعده وقوله عليه الصلاة والسلام :
( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله قال :
( إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) .
أخرجه مسلم ومالك وعنه النسائي والترمذي وأحمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أيضا .
( وقوله : ( لا يزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظرها [ لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ] ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد : اللهم اغفر له اللهم ارحمه [ اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ] ما لم يحدث ) .
فقال رجل [ أعجمي ] من حضرموت : وما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : [ إن الله لا يستحيي من الحق ] فساء أو ضراط ] ) .
الحديث من رواية أبي هريرة أيضا وله عنده طرق تزيد على العشر :
1 - همام بن منبه عنه .
أخرجه مسلم والترمذي والسياق له والبيهقي وأحمد والزيادة الأخيرة له والترمذي وليس له : ( إن الله لا يستحيي من الحق ) .
2 - أبو الزناد عن الأعرج عنه . وفيه الزيادة الأولى .
أخرجه مالك وعنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي وأحمد كلهم عن مالك به .
3 - سعيد بن أبي سعيد المقبري عنه .
أخرجه البخاري وفيه زيادة : ( أعجمي ) وتفسير الحدث وأحمد .
4 - الأعمش عن أبي صالح عنه .
أخرجه مسلم وفيه الزيادة الثانية وابن ماجه وكذا البخاري وابن ماجه أيضا وأحمد .
5 - أيوب السختياني عن ابن سيرين عنه .
رواه مسلم وأحمد .
6 - حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع عنه . وفيه تفسير الحدث .
مسلم وأبو داود وأحمد .
7 - ابن شهاب عن ابن هرمز عنه .
مسلم وأحمد .
8 - أبو سلمة عنه .
أخرجه النسائي والدارمي والطيالسي وأحمد وهو صحيح على شرطهما وأخرجه مالك أيضا .
9 - محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنه .
أخرجه أحمد .
ورجاله ثقات غير أن ابن إسحاق قد عنعنه .
10 - كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عنه .
أخرجه أحمد .
وسنده حسن .
11 - محمد بن حميد قال : ثنا سعيد بن المهدي عن أبيه عنه .
أخرجه الطيالسي .
وهذا سند ضعيف مجهول : محمد بن حميد هو الرازي حافظ ضعيف وكان ابن معين حسن الرأي فيه كما في ( التقريب ) .
وسعيد بن المهدي ووالده لم أعرفهما .
وقد احتج النسائي لعدم الوجوب بما لم يتعرض لذكره الشوكاني لذلك رأيت من الفائدة إيراد ما احتج به للتنبيه عليه .
وهو ما أخرجه من طريق عبد الله بن كعب قال : سمعت كعب ابن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال :
وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس . . . الحديث . وفيه : فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال : ( تعال ) فجئت حتى جلست بين يديه فقال لي :
( ما خلفك ؟ ألم تكن ابتعت ظهرك ؟ ) .
فقلت : يا رسول الله إني - والله - لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه لقد أوتيت جدلا ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب لترضى به عني ليوشك أن الله عز وجل يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ) فقمت فمضيت .
وترجم له ب :
( الرخصة في الجلوس في المسجد والخروج منه بغير صلاة ) .
ولكن الحديث كالذي قبله ليس صريحا في أنه جلس بدون صلاة أو أنه كان بعد أمره عليه الصلاة والسلام بالتحية بل هو يحتمل خلاف ذلك وليس فيه ما يدفع هذا الاحتمال وإذ قد طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال والله أعلم .
ولذلك قال الشوكاني بعد أن فند كل ما احتجوا به :
( فإذا عرفت هذا لاح لك أن الظاهر ما قاله أهل الظاهر من الوجوب ) .
وسبقه إلى اختيار الوجوب الأمير الصنعاني في ( سبل السلام ) قال :
( لكثرة الأوامر الواردة به ) .
قلت : ويؤيد ذلك ما يأتي من أمره عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر يخطب يوم الجمعة سليكا الغطفاني بهذه الصلاة ثم أمر بذلك كل من يدخل المسجد ولو كان الإمام يخطب فهذا من أقوى الأدلة على وجوبها لأمور :
الأول قطعه عليه الصلاة والسلام الخطبة .
الثاني : أمره بها بعد أن جلس سليك .
الثالث - وهو أقواها - : انه أمر بها في أثناء الخطبة فإنه من المعلوم أنه في هذه الحال لا يجوز لأحد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر لقوله عليه الصلاة والسلام :
( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ) .
رواه الشيخان وغيرهما . فإذا أمر عليه الصلاة والسلام بالتحية في هذه الحالة دل ذلك على أنها أعظم عنده من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبين في الأصل . وهذا واضح لا يخفى والحمد لله .
وبالجملة فالحديث متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
أخرجه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن سعيد بن المسيب عنه .
وهذا إسناد حسن في الشواهد .
قوله : ( ما لم يحدث ) قد فسره الراوي بخروج صوت أو ريح فلا يلتفت إلى خلافه قال الحافظ :
( لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اليد واللسان من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشد . أشار إلى ذلك ابن بطال ) .
وقد أطال الكلام في شرح الحديث وذكر فوائده العراقي في ( شرح التقريب ) فمن شاء فليرجع إليه .
( وقوله : ( لا يوطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله به [ من حين يخرج ] كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم ) .
هو من حديث أبي هريرة أيضا .
أخرجه ابن ماجه والحاكم والطيالسي وأحمد من طرق عن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة مرفوعا . والزيادة للحاكم وأحمد وللطيالسي معناها ثم قال الحاكم :
( صحيح على شرط الشيخين وقد خالف الليث بن سعد ابن أبي ذئب فرواه عن المقبري عن أبي عبيدة عن سعيد بن يسار أنه سمع أبا هريرة مرفوعا بنحوه ) .
قلت : وقد وافقه الذهبي . وهو من الطريق الأولى على شرطهما كما قالا وفي الطريق الأخرى : أبو عبيدة هذا لم أعرفه .
وقد أخرجه من هذا الوجه الإمام أحمد من طرق عن الليث . ورواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) كما في ( الترغيب ) وقال في ( الزوائد ) :
( إسناده صحيح رجاله ثقات ) .
قوله : ( تبشبش ) : أصله فرح الصديق بمجيء الصديق واللطف في المسألة والإقبال والمراد هنا : تلقيه ببره وتقريبه وإكرامه .
وفي الباب أحاديث أخرى في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولزوم المساجد وفيما ذكرنا منها غنية وكفاية ومن رام الزيادة فعليه ب ( الترغيب ) .
وفيها على اختلاف ألفاظها ومعانيها الترغيب على انتظار الصلاة واستيطان المساجد من أجل الذكر والصلاة وأقل ما تفيده الاستحباب وقد ذهب إليه ابن حزم رحمه الله فقال :
( ويستحب ملازمة المسجد لمن هو في غنى عن الكسب والتصرف ) .
وإنما قيده بهذا القيد وتبعناه على ذلك لما ثبت في الشريعة من وجوب السعي وراء الرزق وأن لا يكون المسلم عالة على الناس كقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة/10 ] فإذا كان غنيا عن ذلك أو بلغ من العمر عتيا بحيث لا يستطيع العمل أو غير ذلك كان معقولا أن يجعل وطنه بيت الله تعالى وأن يرابط فيه لذكر الله والصلاة .
( ب ) المناهي
( 1 - الخروج من المسجد بعد الأذان قبل الصلاة لا يحل فقد ( خرج رجل من المسجد بعدما أذن فيه [ بالعصر ] فقال أبو هريرة رضي الله عنه : أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم ) .
الحديث من رواية أبي هريرة نفسه رضي الله عنه وله عنه طريقان :
الأول : عن أبي الشعثاء قال . . . فذكره .
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وابن ماجه وأحمد من طريق إبراهيم بن المهاجر وأشعث بن أبي الشعثاء والمحاربي عن أبي الشعثاء وقال الترمذي - والسياق له - :
( حديث حسن صحيح ) .
والزيادة له ولأبي داود وأحمد في رواية .
ثم أخرجه هو والطيالسي من طريق شريك عن أشعث به وزاد :
( ثم قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي ) . قال المنذري :
( رواه أحمد وإسناده صحيح ) . وقال الهيثمي :
( ورجاله رجال الصحيح ) .
قلت : وهو بهذه الزيادة غير صحيح لأنه تفرد بها شريك وليس بالقوي فيما يتفرد به كما قال الدارقطني وفي ( التقريب ) :
( صدوق يخطيء ) .
ثم هو لم يحتج به أحد ( الصحيحين ) وإنما أخرج له مسلم متابعة كما صرح الذهبي في ( الميزان ) فإطلاق الهيثمي أن رجاله رجال ( الصحيح ) ليس بصحيح لأنه يوهم أنهم كلهم محتج به في ( الصحيح ) وليس كذلك على أنه قد جاء الحديث مرفوعا من طريق أخرى عن أبي هريرة كما يأتي لكني شخصيا لم أقف على سنده لنحكم له أو عليه وإن كان ظاهر كلام المنذري والهيثمي يفيد أنه قوي كما سترى .
الثاني : عن أبي صالح عنه أنه رأى رجلا . . . الحديث بدون الزيادة .
أخرجه الطبراني في ( الصغير ) قال : ثنا محمد بن المديني - فستقة - البغدادي : ثنا سريج بن يونس : ثنا أبو حفص الأبار عن محمد بن حجادة عنه . وقال :
( لم يروه عن محمد بن حجادة إلا أبو حفص الأبار ) .
قلت : وهو ثقة حافظ واسمه عمر بن عبد الرحمن . وبقية رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين غير فستقة هذا وهو لقبه واسمه محمد بن علي بن الفضل أبو العباس وهو ثقة مات سنة ( 289 ) كما في ( تاريخ بغدد ) فالإسناد صحيح .
والحديث تكلم فيه الشوكاني حيث قال :
( وفي إسناده إبراهيم بن المهاجر وقد وثق وضعف ) .
وقد خفي عليه أنه تابعه أشعث بن أبي الشعثاء وهو ثقة .
ثم إن ظاهره أنه موقوف ولكنه في المعنى مرفوع عند الجمهور قال المنذري في ( مختصر سنن أبي داود ) :
( ذكر بعضهم أن هذا موقوف وذكر أبو عمر النمري أنه مسند عندهم وقال : لا يختلفون في هذا وذاك أنهما مسندان مرفوعان . يعني : هذا وقول أبي هريرة : ومن لم يجب - يعني الدعوة - فقد عصى الله ورسوله ) . قال الحافظ :
( وقد أخرجه الطبراني في ( الأوسط ) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه فصرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتخصيص ولفظه :
( لا يسمع النداء في مسجدي ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق ) .
قلت : وقال المنذري في ( الترغيب ) :
( رواه الطبراني في ( الأوسط ) ورواته محتج بهم في ( الصحيح ) . وقال الهيثمي في ( المجمع ) نحوه .
قلت : وله شاهد من حديث عثمان بن عفان مرفوعا بلفظ :
( من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق ) .
أخرجه ابن ماجه عن عبد الجبار بن عمر عن [ ابن ] أبي فروة عن محمد بن يوسف مولى عثمان بن عفان عن أبيه عنه . وفي ( الزوائد ) :
( إسناده ضعيف فيه ابن أبي فروة واسمه إسحاق بن عبد الله : ضعفوه وكذلك عبد الجبار بن عمر ) .
وشاهد آخر مرسل أخرجه الدارمي من طريق عبد الرحمن بن حرملة قال :
جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة فقال له : لا تبرح حتى تصلي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد ) فقال إن أصحابي بالحرة قال : فخرج قال : فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه .
وهذا إسناد حسن رجاله كلهم رجال مسلم إلا أنه روى لعبد الرحمن متابعة كما في ( تهذيب التهذيب ) وزعم الحاكم في ( المستدرك ) أن مسلما احتج به وأفاد في موضع آخر أنه من رجال البخاري وهذا من أوهامه التي وافقه الذهبي عليها .
والحديث هذا رواه عبد الرزاق في ( مصنفه ) من هذا الوجه كما في ( نصب الراية ) وعزاه المنذري لأبي داود في ( مراسيله ) وهو في ( المختصر ) .
قال الشوكاني :
( والحديثان يدلان على تحريم الخروج من المسجد بعد سماع الأذان لغير الوضوء وقضاء الحاجة وما تدعو الضرورة إليه حتى يصلي فيه تلك الصلاة لأن ذلك المسجد قد تعين لتلك الصلاة قال الترمذي بعد أن ذكر الحديث : وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم : أن لا يخرج أحد من المسجد [ بعد الأذان ] إلا من عذر : أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه . ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال : يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه . انتهى .
قال ابن رسلان في ( شرح السنن ) : إن الخروج مكروه عند عامة أهل العلم إذا كان لغير عذر من طهارة أو نحوها وإلا جاز بلا كراهة قال القرطبي : هذا محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل نسبته إليه وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان فأطلق لفظ المعصية عليه ) .
قلت : ولذلك فالحديث دليل على التحريم كما قال الشوكاني وسبقه إلى ذلك ابن حزم حيث قال :
( ومن كان في المسجد فاندفع الأذان لم يحل له الخروج من المسجد إلا أن يكون على غير وضوء أو لضرورة ) .
والقول بالكراهة فقط خلاف ظاهر الحديث .
( وهذا إذا كان لغير عذر وأما به فيجوز كما سيأتي في المباحات ) .
( 2 - تشبيك الأصابع ما دام فيه لقوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يقل هكذا : وشبك بين أصابعه ) .
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه .
أخرجه الدارمي والحاكم - واللفظ له - من طريق إسماعيل بن أمية عن المقبري عنه . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط الشيخين ) . ووافقه الذهبي .
وهو كما قالا . ولم يرض ذلك المنذري في ( الترغيب ) حيث قال :
( وفيما قاله نظر ) .
قلت : ولعل وجهه أنه اختلف فيه على المقبري كما يأتي لكن إسماعيل ابن أمية ثقة ثبت كما في ( التقريب ) .
وقد تابعه محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة .
أخرجه الحاكم عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان . والحديث أخرجه ابن خزيمة في ( صحيحه ) أيضا كما في ( الترغيب ) .
والاختلاف المشار إليه جاء على وجوه هذا أحدها .
ثانيها : سفيان الثوري عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة مرفوعا به .
أخرجه الدارمي .
وتابعه أبو بكر بن عياش عند ابن ماجه وقران بن تمام أبو تمام وشريك بن عبد الله عند أحمد كلهم عن ابن عجلان به .
ثالثهما : الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن رجل من بني كعب عن كعب .
أخرجه الترمذي به .
وتابعه ابن جريج إلا أنه قال : عن بعض بني كعب بن عجرة عن كعب .
رواه أحمد .
رابعها : ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن رجل من بني سالم عن أبيه عن جده عن كعب .
أخرجه الطيالسي وأحمد .
وهذا اختلاف شديد ولذلك قال الحافظ :
( أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان وفي إسناده اختلاف ضعفه بعضهم بسببه ) .
قلت : وقد غمزه البيهقي .
قلت : ولعل الوجه الأول هو الصواب لاتفاق ثقتين عليه : إسماعيل بن أمية وابن عجلان وإن كان اختلف فيه على ابن عجلان أيضا كما رأيت لكن لا ندري أمنه هذا الاضطراب أم من شيخه سعيد ؟ والظاهر الثاني . والله أعلم .
على أن للحديث أصلا من رواية كعب بن عجرة من طريقين آخرين لا دخل لهذا الاختلاف فيهما :
الأول : عن داود بن قيس عن سعد بن إسحاق بن فلان بن كعب بن عجرة أن أبا ثمامة الخياط حدثه أن كعب بن عجرة حدثه قال . . . فذكره مرفوعا بنحوه .
أخرجه أبو داود وأحمد . قال المنذري :
( بإسناد جيد ) .
وتبعه العلامة أحمد شاكر في ( تعليقه على الترمذي ) .
وفيه عندي نظر فإن أبا ثمامة هذا وإن كان ( قد ذكره ابن حبان في ( الثقات ) وأخرج له في ( صحيحه ) هذا الحديث ) كما في ( النيل ) فإنه مجهول الحال كما قال الحافظ في ( التقريب ) وقال الدارقطني :
( لا يعرف يترك كما في ( الميزان ) للذهبي وقال : لا يعرف ) .
نعم من الممكن أن يقال : إنه حسن لغيره لما سبق ويأتي :
الثاني : أخرجه ابن حبان في ( صحيحه ) فقال : ثنا أبو عروبة : ثنا محمد ابن سعدان : ثنا سليمان بن عبد الله عن عبيد الله بن عمر [ و] عن زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة مرفوعا . ذكره العيني في ( العمدة ) وسكت عليه ورجاله موثقون غير محمد بن سعدان فلم أعرفه ولعله محمد بن سعدان أبو جعفر البزار حدث عن أبي جعفر النفيلي وفيض بن وثيق وغيرهما روى عنه أبو عبد الله الحكيمي - له ترجمة في ( تاريخ بغداد ) - وقال :
( مات سنة سبع وسبعين ومائتين ) .
ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا إلا أن الحديث منقطع فإن سليمان بن عبد الله وهو ابن محمد بن سليمان الحراني مات سنة ثلاث وستين ومائتين .
وعبيد الله بن عمرو - وهو الرفي - مات سنة ثمانين ومائة عن ( 79 ) . فبين وفاتيهما ( 83 ) سنة فلعل بينهما محمد بن سليمان الحراني جد سليمان هذا فإنه يروي عنه .
وله شاهد من حديث مولى أبي سعيد الخدري .
أخرجه أحمد : ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال : ثنا عبيد الله بن عبد الله بن موهب قال : ثني عمي يعني عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب - عن مولى لأبي سعيد الخدري قال :
بينما أنا مع أبي سعيد الخدري مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخلنا المسجد فإذا رجل جالس في وسط المسجد محتبيا مشبك أصابعه بعضها في بعض فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفطن الرجل لإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سعيد فقال :
( إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه ) .
ثم رواه عن وكيع عن عبيد الله به وعنه أخرجه ابن أبي شيبة كما في ( العمدة ) وقال الحافظ :
( وفي إسناده ضعيف ومجهول ) .
قلت : الأول هو عبيد الله وهو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب قال : في ( التقريب ) :
( ليس بالقوي ) .
والآخر عمه عبيد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب وهو مقبول كما في ( التقريب ) .
ومنه تعلم أن قول المنذري ثم الهيثمي :
( رواه أحمد بإسناد حسن ) .
غير حسن . نعم الحديث حسن بل صحيح بمجموع هذه الطرق .
وقد عارضه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه . . . الحديث .
أخرجه البخاري وترجم له ب ( باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره ) .
وفيه دلالة على جواز التشبيك في المسجد فإما أن يقال : إن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام لما تقرر في الأصول أن قوله عليه الصلاة والسلام مقدم على فعله عند التعارض وإما أن يكون فعله مبينا لنهيه أنه ليس للتحريم بل للكراهة ولعله الأقرب والله أعلم . وانظر ( نيل الأوطار ) .
( 3 - قربانه ممن أكل ثوما ونحوه من البقول والنباتات المنتنة فإن ذلك يحرم ما دامت الرائحة الكريهة فيه لقوله عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر : ( من أكل من هذه الشجرة المنتنة [ قال أول يوم : الثوم ثم قال : الثوم والبصل والكراث ] فلا يقربن مسجدنا ( وفي لفظ : مساجدنا وفي حديث ثاني : فلا يقربنا ولا يصلين معنا زاد في ثالث : ثلاثا [ وليقعد في بيته ] وفي رابع : حتى يذهب ريحه منه وفي خامس : ولا يؤذينا بريح الثوم ) فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس وفي سادس : وقال : إن كنتم لا بد أكليهما فأميتوهما طبخا يعني : البصل والثوم ) .
الحديث جاء عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة يزيد بعضهم على بعض :
الأول : جابر بن عبد الله .
وله عنه طرق :
1 - كثير بن هشام عن هشام الدستوائي عن أبي الزبير عنه - والسياق له .
أخرجه مسلم وأحمد ورواه الطبراني في ( الصغير ) من طريق يحيى بن راشد البراء : ثنا هشام بن حسان الفردوسي عن أبي الزبير به وزاد :
( الثوم والبصل والكراث والفجل ) . وقال :
( لم يروه عن هشام القردوسي إلا يحيى بن راشد ) .
قلت : وهو ضعيف كما قال الحافظ في ( الفتح ) وشيخه الهيثمي في ( المجمع ) وهي زيادة ثابتة من طريق أخرى كما يأتي دون قوله : ( الفجل ) فإنه لم يرد إلا في هذا الطريق .
والحديث أخرجه ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن نمران الحجري عن أبي الزبير به :
أن نفرا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فوجد منهم ريح الكراث فقال :
( ألم أكن نهيتكم عن أكل هذه الشجرة إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان ) .
وعبد الرحمن بن نمران مجهول كما في ( التقريب ) لكن تابعه حماد بن سلمة : أنا أبو الزبير أتم منه .
أخرجه أحمد .
2 - ابن جريج قال : أخبرني عطاء عنه .
وفيه الزيادة الأولى عند مسلم والنسائي والسياق واللفظ الآخر له والترمذي وصححه من طريق يحيى بن سعيد عنه 55 ولفظ مسلم :
( الثوم ) وقال مرة :
( البصل والثوم والكراث ) . قال الحافظ :
( ورواه أبو نعيم في ( المستخرج ) من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج مثله وعين الذي قال : ( وقال مرة ) ولفظه : قال ابن جريج وقال عطاء في وقت آخر : ( الثوم والبصل والكراث ) ورواه أبو الزبير عن جابر بلفظ : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث . وقال : ولم يكن ببلدنا يومئذ الثوم . هكذا أخرجه ابن خزيمة من رواية يزيد بن إبراهيم وعبد الرزاق عن ابن عيينة كلاهما عن أبي الزبير . قلت : وهذا لا ينفي التفسير المتقدم إذ لا يلزم من كونه لم يكن بأرضهم أن لا يجلب إليهم حتى لو امتنع هذا الحمل لكانت رواية المثبت مقدمة على رواية النافي ) .
ويريد الحافظ بالتفسير المشار إليه رواية البخاري من طريق أبي عاصم قال : أخبرنا جريج به بلفظ :
( من أكل من هذه الشجرة - يريد الثوم - فلا يغشانا في مسجدنا ) .
وهو رواية لمسلم من طريقين آخرين عن ابن جريج .
ثم أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي من طريق ابن وهب : أخبرني يونس عن ابن شهاب قال : ثني عطاء بن أبي رباح به وفيه الزيادة الثانية ولفظه :
( من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا ) أو ( أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته ) وإنه أتي بقدر فيه خضروات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال : ( قربوها ) إلى بعض أصحابه فلما رآه كره أكلها قال : ( كل فإني أناجي من لا تناجي ) .
وتابعه عبد الملك بن مروان عند أحمد والليث بن سعد عند الطبراني بدون قصة القدر . وقال الطبراني :
( ولم يرو الزهري عن عطاء حديثا غير هذا ) .
الثاني : أنس بن مالك .
رواه عنه عبد العزيز بن صهيب قال : سئل أنس عن الثوم فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلين معنا ) . وهو الحديث الثاني .
الثالث : حذيفة بن اليمان مرفوعا بلفظ :
( من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا - ثلاثا - ) .
أخرجه أبو داود من طريق زر بن حبيش عن حذيفة أظنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإسناده صحيح على شرط الشيخين وعزاه المنذري في ( الترغيب ) لابن خزيمة فقط في ( صحيحه ) وهو قصور وأورده في مكان آخر بالشطر الأول منه وقال :
( رواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في ( صحيحيهما ) .
قلت : وهو الحديث الثالث .
الرابع : أبو سعيد الخدري .
وله عنه طرق أربعة :
1 - عن أبي نضرة عنه قال : لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة الثوم والناس جياع فأكلنا منها أكلا شديدا ثم رحنا إلى المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح فقال :
( من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنا في المسجد ) فقال الناس : حرمت حرمت فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
( أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحل الله لي ولكنها شجرة أكره ريحها ) .
2 - عن ابن خباب عنه :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على زراعة بصل هو وأصحابه فنزل ناس منهم فأكلوا منه ولم يأكل آخرون فرحنا إليه فدعا الذين لم يأكلوا البصل وأخر الآخرين ) حتى ذهب ريحها .
أخرجها مسلم وأخرجه البيهقي من الوجه الأول .
3 - عن بكر بن سوادة أن أبا النجيب مولى عبد الله بن سعد حدثه أن أبا سعيد الخدري حدثه :
أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل قيل : يا رسول الله وأشد ذلك كله الثوم أفتحرمه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( كلوه . ومن أكل منكم فلا يقرب هذا المسجد حتى يذهب ريحه منه ) .
رواه أبو داود .
وإسناده حسن في الشواهد رجاله كلهم ثقات رجال ( الصحيح ) غير أبي النجيب هذا وقد وثقه ابن حبان وحده ولم يذكروا راويا عنه غير بكر هذا وفي ( التقريب ) :
( إنه مقبول ) .
قلت : ورواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) كما في ( الترغيب ) ( 1/134 ) .
وله شاهد وهو ( السادس ) وآخر وهو الذي بعده .
4 - عن بشر بن حرب : سمعت أبا سعيد الخدري يحدث قال :
غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك وخيبر قال : ففتح الله على رسوله فدك وخيبر فوقع الناس في بقلة لهم هذا الثوم والبصل قال فراحوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد ريحها فتأذى به ثم عاد القوم فقال :
( ألا لا تأكلوه فمن أكل منها شيئا فلا يقربن مجلسنا ) .
الحديث أخرجه أحمد .
وإسناده حسن إن شاء الله تعالى رجاله ثقات رجال الشيخين غير بشر هذا وهو صدوق فيه لين كما في ( التقريب ) .
الخامس : أبو هريرة رضي الله عنه .
رواه ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عنه بلفظ :
( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم ) .
أخرجه مسلم - واللفظ له - وابن ماجه وأحمد وعزاه المنذري للنسائي أيضا ولم أجد فيه ولعله في ( سننه الكبرى ) له وهذا هو الحديث الخامس وله في ( المسند ) .
السادس : عبد الله بن عمر .
رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عنه بلفظ :
( من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا ) .
أخرجه البخاري والدارمي وزادا : ( في غزوة خيبر ) ومسلم وزاد في آخره : ( حتى يذهب ريحها ) وابن ماجه وأحمد وعنه أبو داود بلفظ : ( المساجد ) وفي نسخة لمسلم : ( مساجدنا ) وهو الذي نقله المنذري عنه ثم قال :
( وفي رواية لهما : ( فلا يأتين المساجد ) .
قلت : هي رواية لمسلم وفيها الزيادة التي عند البخاري وأما هذه الرواية فلم أجدها عنده وقد عزاها الحافظ في ( شرح البخاري ) لمسلم وحده فلو كانت عند البخاري نفسه لعزاها إليه والله أعلم .
السابع : المغيرة بن شعبة قال :
أكلت ثوما فأتيت مصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت المسجد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ريح الثوم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال :
( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا حتى يذهب ريحها أو ريحه ) .
فلما قضيت الصلاة جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله لتعطيني يدك قال : فأدخلت يده في كم قميصي إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر 56 ( شد جوفه بعصابة من الجوع ) قال :
( إن لك عذرا ) .
أخرجه أبو داود : ثنا شيبان بن فروخ : ثنا أبو هلال : ثنا حميد بن هلال عن أبي بردة عنه .
وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير أبي هلال واسمه محمد بن سليم الراسبي وهو صدوق فيه لين كما في ( التقريب ) .
وقد أخرجه أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عنه مختصرا .
الثامن : قرة أبو معاوية :
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين وقال :
( من أكلهما فلا يقربن مسجدنا ) وقال : ( إن كنتم . . . ) الحديث .
وهو السادس .
أخرجه أبو داود وأحمد عن عبد الملك بن عمرو قال : ثنا خالد ابن ميسرة : ثنا معاوية بن قرة عن أبيه .
وهذا إسناد جيد رجاله ثقات رجال الشيخين غير خالد بن ميسرة وهو صدوق كما قال ابن عدي وقال الحافظ :
( إنه صالح الحديث ) .
التاسع : معقل بن يسار قال :
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له فنزلنا في مكان كثير الثوم وإن أناسا من المسلمين أصابوا منه ثم جاؤا إلى المصلى يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عنها ثم جاؤا بعد ذلك إلى المصلى فنهاهم عنها ثم جاؤا بعد ذلك إلى المصلى فنهاهم عنها ثم جاؤا بعد ذلك إلى المصلى فوجد ريحها منهم فقال :
( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا في مسجدنا ) .
أخرجه أحمد والطبراني في ( الصغير ) مختصرا من طريق الحكم بن طهمان أبي عزة الدباغ عن أبي الرباب مولى معقل بن يسار عن معقل به . وقال الهيثمي بعد أن ساقه مختصرا :
( رواه أحمد والطبراني في ( الكبير ) و( الصغير ) وفيه أبو الزيات وهو مجهول ) .
قلت : كذا وقع في نسختنا منه : الزيات . بالزاي ثم مثناة تحتية وأخرى فوقية والذي في ( المسند ) في موضعين منه والطبراني : الرباب بالراء المهملة ثم موحدتين 57 وأيا ما كان فإني لم أجد من ترجمه .
والحكم بن طهمان هو ابن أبي القاسم قال في ( التعجيل ) :
( قال أبو زرعة شيخ ثقة رجل صالح وقال أبو حاتم : لا بأس به صالح الحديث . وضعفه ابن حبان في ( الذيل ) قلت : وقد وثقه أيضا ابن معين ) .
العاشر : أبو ثلعبة الخشني قال :
غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر والناس جياع . . . الحديث . قال : ووجدنا في جنانها بصلا وثوما والناس جياع فجهدوا فراحوا فإذا ريح المسجد بصل وثوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربنا . . . ) الحديث .
أخرجه أحمد عن بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عنه .
وهذا سند رجاله ثقات غير أن بقية مدلس وقد عنعنه .
والحديث قال المنذري وتبعه الهيثمي :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) بإسناد حسن ) .
قلت : فيه أولا أن الحديث في ( المسند ) فكان ينبغي عزوه إليه .
وثانيا : فيه العنعنة من المدلس وهذا ينافي الحسن فلعل بقية قد صرح بالتحديث في رواية الطبراني .
وفي هذه الأحاديث النهي الأكيد بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد وهو مذهب كافة العلماء إلا ما حكي عن بعضهم أن النهي خاص بمسجده عليه الصلاة والسلام لقوله في اللفظ الأول : ( مسجدنا ) وهذا لا حجة فيه لأن الحديث الثالث دل على أن القول المذكور صدر منه عليه السلام عقب غزوة خيبر وفتحها فقوله : ( مسجدنا ) يريد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته هناك أو يكون المراد بالمسجد الجنس والإضافة على المسلمين أي : فلا يقربن مسجد المسلمين ويؤيده اللفظ الثاني : مساجدنا .
قلت : ويقوي ذلك التعليل بإيذاء المسلمين والملائكة وهذا متحقق في كل مسجد كما لا يخفى .
ثم إن هذه العلة تقتضي أمرين لم ينص عليهما في الحديث :
الأول : إلحاق مجامع العبادة بالمساجد كمصلى العيد والجنائز ونحوها ويدل لذلك أيضا عموم قوله عليه الصلاة والسلام : ( فلا يقربنا ولا يصلين معنا ) . قال الحافظ :
( وقد ألحقها بعضهم بالقياس والتمسك بهذا العموم أولى ونظيره قوله : ( وليقعد في بيته ) .
الثاني : إلحاق كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها بالثوم وقد نقله النووي عن العلماء وقال :
( قال القاضي : ويلحق به من أكل فجلا وكان يتجشأ قال : وقال ابن المرابط : ويلحق به من به بخر في فيه أو به جرح له رائحة ) .
قلت : وفيما قاله ابن المرابط نظر بين لأن المذكورين ليست الرائحة منهم بكسبهم ولا باختيارهم فلا يصح إلحاقهم بالأولين فإنهم مختارون في ذلك في طوقهم الابتعاد عنها إذا شاؤا ولذلك قال ابن المنير في ( الحاشية ) :
( ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بأكل الثوم في المنع من دخول المسجد ) . قال :
( وفيه نظر لأن آكل الثوم أدخل على نفسه باختياره هذا المانع والمجذوم علته سماوية ) .
قلت : فهو بذلك معذور فلا يمنع من الدخول ويؤيده أن المغيرة بن شعبة حين وجد عليه الصلاة والسلام منه رائحة الثوم أنكر عليه فلما أبدى له عذره - وهو أنه إنما أكله من الجوع - عذره كما سبق في الحديث السابع فالمجذوم ونحوه يعذر من باب أولى 58 . وقال الحافظ :
( وألحق بعضهم بذلك من بفيه بخر أو به جرح له رائحة وزاد بعضهم فألحق أصحاب الصنائع كالسماك والعاهات كالمجذوم ومن يؤذي الناس بلسانه . وأشار ابن دقيق العيد إلى أن ذلك كله توسع غير مرضي ) .
وبالجملة فالذي لا شك فيه ويكاد يكون متفقا عليه بن العلماء : أن علة الإيذاء تقتضي المنع من دخول كل من يتعاطى شيئا ذا رائحة كريهة سواء كان مأكولا أو مشروبا أو غير ذلك بشرط أن يكون مختارا في ذلك غير مضطر كمداواة أو كصنعة كالجزارة ونحوها .
قلت : يكاد يكون متفقا لأنه قد خالف فيه ابن حزم رحمه الله حيث قال :
( ومن أكل ثوما أو بصلا أو كراثا ففرض عليه أن لا يصلي في المسجد حتى تذهب الرائحة وفرض إخراجه من المسجد إن دخله قبل انقطاع الرائحة فإن صلى في المسجد كذلك فلا صلاة له ولا يمنع أحد من المسجد غير من ذكرنا ولا أبخر ولا مجذوم ولا ذو عاهة ) .
ثم ساق حديث عمر الآتي وحديث جابر ثم قال :
( قال علي : لم يمنع عليه السلام من حضور المساجد أحدا غير من ذكرنا { وما ينطق عن الهوى } { وما كان ربك نسيا } .
قلت : وهذا منه جمود على اللفظ دون النظر في المعنى فإن التعليل في حديث جابر بالإيذاء يدل دلالة واضحة على المنع من كل ما رائحته تؤذي على التفصيل الذي ذكرنا آنفا ولذلك نقول جازمين :
إن أول تلك الملحقات بالثوم : النبات الخبيث المعروف ب ( التتن ) لأن نتن ريحه أشد إيذاء للمسلمين من الثوم وغيره مما نص عليه في الحديث كما يشهد بذلك كل من عافاه الله من هذه البلية التي لا يكاد ينجو منها إلا القليل بل يشهد بذلك المبتلون أنفسهم عافاهم الله منه ولن يعافيهم الله إلا إذا سلكوا سبيلها : { فأما من أعطى واتقى . وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى } تلك هي سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا .
وإنها لعقوبة شديدة أن يمنع هؤلاء وأمثالهم من دخول المساجد التي يجتمع فيها المؤمنون ويحضرها الملائكة المقربون فيحرموا بذلك شهود الخير الكثير الذي فيه تضعيف الصلاة بسبع وعشرين درجة وأشد من ذلك أن يخرجوا منها - إذا دخلوا - قهرا وبالقوة كما كان يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما يأتي وإن في ذلك لعبرة { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر/2 ] .
قال في ( الفتح ) :
( فائدة ) : حكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلى البقيع كما ثبت في مسلم ) .
قلت : ولعل التعبير بقوله : ( فلا يقربن ) لإفادة هذا المعنى بخلاف ما لو قال : فلا يدخلن فتأمل . ثم قال :
( تنبيه ) : وقع في حديث حذيفة عند ابن خزيمة : ( من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا ) . وبوب عليه بوقت النهي على إتيان الجماعة لأكل الثوم . وفيه نظر لاحتمال أن يكون قوله : ( ثلاثا ) يتعلق بالقول أي : قال ذلك ثلاثا بل هذا هو الظاهر لأن علة المنع وجود الرائحة وهي لا تستمر هذه المدة ) .
ثم إن النهي في الأحاديث المتقدمة للتحريم وقد ذهب إلى ذلك الظاهرية ومنهم ابن حزم وقد سبق نص كلامه في ذلك قريبا وهو الحق إن شاء الله تعالى وذلك لأمور :
أولا : أن الأصل في النهي التحريم فلا يجوز الخروج منه إلا لدليل أو قرينة ولا شيء من هذا هنا .
الثاني : أنه اقترن بنون التأكيد المشددة وذلك يؤكد النهي والتحريم .
الثالث : أنه مسقط لصلاة الجماعة وهي فرض في أصح الأقوال كما سيأتي بيانه في محله فتركها حرام فلو لم يكن دخول المسجد من المذكورين في الحديث أشد تحريما لما عاقبهم الشارع الحكيم بالمنع منه ولما أضاع عليهم التضعيف المذكور آنفا والله عز وجل يقول : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } [ النساء/40 ] وهو سبحانه وتعالى أعلم .
ومما ذكرنا تعلم أن الاحتجاج بالحديث على أن الجماعة ليست فرض عين غير صواب لأن الشارع إنما حرمهم منها عقوبة لهم على إتيانها بما هو أعظم جرما من تركها بدون عذر .
ومن الدليل على أن النهي للتحريم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإخراج من وجد منه رائحة الثوم أو البصل من المسجد وليس هذا من شأن من ارتكب مكروها كما لا يخفى ولذلك قلنا :
( ويجب على المستطيع إخراجهم من المسجد لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخا ) .
الحديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه والطيالسي وأحمد من طريق قتادة عن سالم بن أبي الجعد الغطفاني عن معدان بن أبي طلحة اليعمري أن عمر بن الخطاب قال . . . فذكره . قال النووي :
( فيه إخراج من وجد منه ريح الثوم والبصل ونحوهما من المسجد وإزالة المنكر باليد لمن أمكنه ) . قال السندي رحمه الله :
( ولعل في الإخراج إلى البقيع تنبيها على أنه لا ينبغي له صحبة الأحياء بل ينبغي له صحبة الأموات الذين لا يتأذون بمثله أو هو للإشارة على أنه التحق بالأموات الذين لا يذكرون الله ولا يصلون حيث تسبب لمنع نفسه من المساجد ويحتمل أنهم وضعوا [ في ] تلك الجهة للتعزير ) .
قلت : وظاهر الأمر يفيد وجوب الإخراج وقد صرح بذلك ابن حزم كما سبق فهو دليل آخر على تحريم دخول المسجد على هؤلاء لأنه المقابل للوجوب .
( إلا من أكلها لعذر كجوع أو مداواة فإنه يدخل ولا يخرج لحديث المغيرة بن شعبة قال :
( أكلت ثوما فأتيت مصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت المسجد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ريح الثوم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال :
( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا حتى يذهب ريحها أو ريحه ) فلما قضيت الصلاة جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله لتعطيني يدك قال : فأدخلت يده في كم قميصي إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر قال :
( إن لك لعذرا ) .
الحديث أخرجه أبو داود بإسناد حسن كما سبق في تخريج أحاديث الباب وأخرجه أيضا البيهقي في ( سننه الكبرى ) .
وأما الحديث الذي أورده البخاري تعليقا فقال :
( وقول النبي صلى الله عليه وسلم : من أكل الثوم والبصل من الجوع أو غيره فلا يقربن مسجدنا ) فقال الحافظ :
( ولم أر التقييد بالجوع وغيره صريحا لكنه مأخوذ من كلام الصحابي في بعض طرق حديث جابر وغيره فعند مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة . . . الحديث .
وله من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد : لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا في هذه البقلة والناس جياع . . . الحديث . قال ابن المنير في ( الحاشية ) : ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بأكل الثوم في المنع من المسجد قال : وفيه نظر لأن آكل الثوم أدخل على نفسه باختياره هذا المانع والمجذوم علته سماوية قال : لكن قوله صلى الله عليه وسلم : من جوع أو غيره . يدل على التسوية بينهما . انتهى . وكأنه رأى قول البخاري في الترجمة وقول النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر فظنه لفظ حديث وليس كذلك بل هو من تفقه البخاري وتجويزه لذكر الحديث بالمعنى ) .
فالحديث لا يدل على المعنى الذي ذهب إليه البخاري لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم أن الحاجة والجوع هو الذي دفعهم إلى الأكل بل هذا هو الظاهر لأنه عليه الصلاة والسلام لو علم ذلك لعذرهم كما في حديث المغيرة هذا وعليه فالحديث يدل على الفرق بين المحتاج وغيره لا على التسوية بينهما كما توهم ابن المنير بسبب رواية البخاري للحديث بالمعنى . فتأمل .
( 4 - اتخاذ مكان معين منه للصلاة فيه لا يجاوزه إلى غيره لحديث :
( نهى صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد ( وفي لفظ : المقام الواحد وفي آخر : المكان الذي يصلي فيه ) كما يوطن البعير ) .
الحديث من رواية عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال : نهى . . . الحديث .
أخرجه أبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجه والحاكم والبيهقي واللفظ الآخر له وأحمد واللفظ الثاني له كلهم من طريق جعفر بن عبد الله ابن الحكم عن تميم بن محمد عنه . وقال الحاكم :
( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي .
ورواه ابن خزيمة وابن حبان أيضا في ( صحيحيهما ) كما في ( الترغيب ) .
قلت : وفي صحة سنده نظر عندي ذلك لأن تميما هذا قد أورده الذهبي نفسه في ( الميزان ) وقال :
( قال البخاري : فيه نظر ) .
وذكره العقيلي والدولابي وابن الجارود في ( الضعفاء ) وأما ابن حبان فوثقه كما هي عادته في توثيق غير المشهورين بالرواية فإن هذا لم يذكروا له راويا غير جعفر بن عبد الله المذكور في هذا الإسناد وأما قول الذهبي :
( روى عنه عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي ) .
فخطأ واضح فإنه - أعني الطرائفي هذا - مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائتين فأنى له أن يروي عن تميم وهو من التابعين من الطبقة الرابعة عند ابن حجر في ( التقريب ) وذكر فيه أنه :
( لين ) .
قلت : إلا أن الحديث يتقوى بالشاهد الذي أخرجه أحمد في ( المسند ) :
ثنا إسماعيل : أنا عثمان البتي عن عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نقرة الغراب وعن فرشة السبع وأن يوطن الرجل مقامه في الصلاة كما يوطن البعير .
ورجاله ثقات غير عبد الحميد هذا فهو مجهول كما في ( التقريب ) .
قوله : ( وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير ) قال الخطابي في ( المعالم ) وتبعه ابن الأثير في ( النهاية ) :
( فيه وجهان : أحدهما : أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد لا يصلي إلا فيه كالبعير لا يأوي من عطنه إلا مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخا لا يبرك إلا فيه . والوجه الآخر : أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود بروك البعير على المكان الذي أوطنه . وأن لا يهوي في سجوده فيثني ركبتيه حتى يضعهما بالأرض على سكون ومهل ) .
قلت : ولم يذكر ابن الأثير قوله : ( وأن لا يهوي . . . ) إلخ . ولعل السبب في ذلك كونه مباينا لما قبله حيث قال : ( أن يبرك على ركبتيه . . . بروك البعير ) . وفي هذا يقول : ( فيثني ركبتيه . . . ) إلخ . والظاهر أن الخطابي رحمه الله يرى أن الاعتبار ليس هو وضع الركبتين قبل اليدين بل ما يحصل من وضعهما كذلك من هدة على الارض كما يسمع ذلك من البعير فإذا وضعهما كذلك على سكون ومهل بدون صوت فقد خرج عن التشبه بالحيوان فلم يشملهما النهي على القول الثاني لكن هذا لا يمكن عادة أعني وضعهما قبل اليدين بدون هدة كما هو الشاهد ولذلك ثبت النهي عنه من قوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت أن هديه خلاف ذلك وهو أن السنة في السجود قولا منه صلى الله عليه وسلم وفعلا وضع اليدين قبل الركبتين خروجا من التشبه بالبعير الذي يبرك على ركبتيه اللتين في يديه خلافا لمن زعم خلاف ذلك وقد بينته في ( التعليقات الجياد على زاد المعاد ) وسيأتي بيانه أيضا في المكان المناسب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
غير أن هذا الوجه الثاني بعيد جدا عن الحديث لا سيما بمجموع ألفاظه المذكورة أعلاه فهي تعين أن المراد منه الوجه الأول وبه جزم جمع من الشراح فمنهم من اقتصر عليه فلم يتعرض لذكر الوجه الثاني إشارة إلى أنه لا اعتداد به كالمناوي وغيره . ومنهم من صرح باستبعاد الوجه المذكور كالسندي رحمه الله في ( حاشيته ) على النسائي والشيخ علي القاري في ( المرقاة ) ونص كلامه في ذلك قال :
( والمعنى الثاني لا يصح هنا لأنه لا يمكن أن يكون مشبها به . وأيضا لو كان أريد هذا المعنى لما اختص النهي بالمكان في المسجد فلما ذكر دل على أن المراد هو الأول . قال ابن حجر : وحكمته أن ذلك يؤدي إلى الشهرة والرياء والسمعة والتقيد بالعادات والحظوظ والشهوات وكل هذه آفات وآفات فيتعين البعد عما أدى إليها ما أمكن ) .
وظاهر النهي يفيد تحريم هذه الثلاث المذكورات في الحديث وفي النهي عن الأوليين أحاديث أخرى يأتي ذكرها في مواطنها إن شاء الله تعالى .
وقد قال ابن الهمام :
( في ( النهاية ) عن الحلواني أنه ذكر في الصوم عن أصحابنا : يكره أن يتخذ في المسجد مكانا معينا فيه لأن العبادة تصير له طبعا فيه وتثقل في غيره والعبادة إذا صارت طبعا فسبيلها الترك وكذا كره صوم الأبد ا . ه .
فكيف من اتخذه لغرض آخر فاسد ) .
والكراهة إذا أطلقت عند علمائنا فهي للتحريم وهذا هو الحق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى .
قال الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله في ( إصلاح المساجد ) :
( يهوى بعض ملازمي الجماعات مكانا مخصوصا أو ناحية من المسجد إما وراء الإمام أو جانب المنبر أو أمامه أو طرف حائطه اليمين أو الشمال أو الصفة المرتفعة في آخره بحيث لا يلذ له التعبد ولا الإقامة إلا بها وإذا أبصر من سبقه إليها فربما اضطره إلى أن يتنحى له عنها لأنها محتكرة أو يذهب عنها مغضبا أو متحوقلا أو مسترجعا وقد يفاجئ الماكث بها بأنها مقامه من كذا وكذا سنة وقد يستعين بأشكاله من جهلة المتنسكين على أن يقام منها إلى غير ذلك من ضروب الجهالات التي ابتليت بها أكثر المساجد ولا يخفى أن محبة مكان من المسجد على حدة تنشأ عن الجهل أو الرياء والسمعة وأن يقال : إنه لا يصلي إلا في المكان الفلاني أو إنه من أهل الصف الأول مما يحبط العمل ملاحظته ومحبته نعوذ بالله . وهب أن هذا المتوطن لم يقصد ذلك فلا أقل أنه يفقد لذة العبادة بكثرة الإلف والحرص على هذا المكان بحيث لا يدعوه إلى المسجد إلا موضعه وقد ورد النهي عن ذلك ) .
قلت : ثم ذكر الحديث ثم قال :
( وفي ( شرح الإقناع ) : يكره لغير الإمام مداومة موضع منه لا يصلي إلا فيه ) . ثم قال :
( في أغلب المساجد الكبيرة جماعة يلازمون منها ما وراء الإمام من قبالة المحراب فيأتون المسجد قبل الصلاة ويأخذون مصافهم وأمكنتهم المعينة لأن كل واحد منهم له مكان من تلك البقعة معين لا يحيد عنه غالبا فقد يتفق أن يأتي من الناس من يظن وجود فرجة هناك أو يأمل أن يفسح له فإن كان الآتي من ذوي الوجاهة في علم أومنصب اغتفروا له وإن كان من طبقة غيرهما فمنهم من يلصق في مكانه ولا يتفسح وإن كان المكان قابلا المتفسح ومنهم من إذا أحس بقدومه يتربع ليأخذ قدر الفراغ المظنون ويضيق عليه فإذا أقيمت الصلاة ودخل أحد فإن كان في المكان فيه اتساع بعد الإقامة تسامحوا في هجومه وإن لم يكن فيه اتساع كاف إلا أنه يمكن لهم أن يتسفحوا فهناك لا تسل عن غرائبهم فمنهم من يترك مكانه ويذهب للصف الثاني حردا وقد ملئ غيظا وغضبا ومنهم من يشير له بالرجوع ويقول : ما ثم مكان ومنهم من يلغط ويتأفف ويحوقل ويخاصم همسا وقد يكمل لغطه بعد الصلاة إذ يكون قدر في نفسه وهو في الصلاة ما يقرعه به ويوبخه على فعله وقد يتفق أن يأتي أحد يلازم معهم جديدا فقد يسبق أحدهم إلى مكانه ويجلس فيه فإذا قدم هذا الملازم القديم ورأى مكانه أخذ فتارة يحرد إلى آخر الصف ويلحظ مكانه بطرف خفي متأسفا ومتغيظا على هذا الذي اغتصب مكانه وقد لا يسعه الصبر فتراه يجاهر ويقول له : ( يا أخي لسنا أولاد البارحة واليوم في هذا الجامع نحن من أربعين سنة نصلي في هذا المكان فأين الذوق ؟ ) فتأمل ما يأتي به هؤلا الجهلة وتأمل عبادتهم المحشوة رياء وعجبا وكبرا وهل مثل هؤلاء للخشية في قلوبهم أثر أو لثمرة الصلاة فيهم وجود ؟ كلا فما أحوجهم إلى مرب ومؤدب والله المستعان ) .
قلت : وقد شاهدت واحدا من هؤلاء - وهو من العوام - لا يصلي إلا وراء الإمام لا يحيد يمنة أو يسرة قيد شعرة ومن زاحمه على ذلك ولو كان من أهل العلم فإنه ينظر إليه نظرة تكون كافية لإرجاعه عن مزاحمه وهذا مع وقوعه في النهي المذكور فقد خالف أيضا قوله عليه الصلاة والسلام : ( ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ) . رواه مسلم وغيره وسيأتي وهذا من مساوئ مخالفته عليه السلام .
ومثل هذا الرجل أحق بما فعله أبي بن كعب رضي الله عنه بقيس بن عباد قال : بينا أنا في المسجد بالمدينة في الصف المقدم فجبذني رجل من خلفي جبذة فنحاني وقام مقامي فوالله ما عقلت صلاتي فلما انصرف فإذا هو أبي بن كعب فقال : يا فتى لا يسؤك الله إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه . . . الحديث .
أخرجه النسائي .
وسنده صحيح رجاله رجال البخاري غير محمد بن عمر بن علي بن مقدم شيخ النسائي فيه وقد وثقه .
ويوسف بن يعقوب فيه هو ابن أبي القاسم الضبعي .
وله في ( المسند ) طريق أخرى عن قيس .
وإسناده صحيح أيضا رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير إياس بن قتادة وقد وثقه ابن سعد وابن حبان .
وأبو حمزة فيه هو عبد الرحمن بن عبد الله أو ابن أبي عبد الله المازني جار شعبة .
( 5 - جلوس الناس على هيئة الحلقة قبل صلاة الجمعة ولو للعلم والمذاكرة لحديث : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار [ وأن تنشد فيه الضالة ] [ وعن الحلق ( وفي لفظ : وأن يتحلق الناس ) يوم الجمعة قبل الصلاة ] ) .

الحديث أخرجه أبو داود والنسائي مفرقا وكذا ابن ماجه والترمذي والطحاوي والبيهقي وأحمد والسياق له كلهم من طريق محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص . والزيادتان عند الجميع إلا النسائي والطحاوي - فليس عندهما الأولى منهما - وكذا الترمذي إلا أنه أشار إليها في عنوان الباب حيث قال :
( باب ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد ) .
وليس عند ابن ماجه والبيهقي الزيادة الأخرى واللفظ الآخر فيه للترمذي . ثم قال :
( حديث حسن ) .
وعمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص قال محمد بن إسماعيل ( يعني البخاري ) :
( رأيت أحمد وإسحاق - وذكر غيرهما - يحتجون بحديث عمرو بن شعيب قال محمد : وقد سمع شعيب بن محمد من جده عبد الله بن عمرو قال أبو عيسى : ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده قال علي بن عبد الله : وذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال : حديث عمرو بن شعيب عندنا واه ) .
والحق أن حديثه ( ليس من أعلى أقسام الصحيح بل هو من قبيل الحسن ) كما قال الذهبي في ( الميزان ) بعد أن حكى أقوال الأئمة فيه . وإعلال من أعله بأنه لم يسمع من جده مردود بروايات ثبت فيه تصريحه بسماعه منه كما بين ذلك المحقق أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي فليراجعه من شاء .
ثم إن محمدا بن عجلان فيه مقال وهو حسن الحديث كما سبق مرارا .
وقد تابعه أسامة بن زيد عند أحمد مقتصرا على الجملة الأولى . وأورد الحافظ منه الجملة الثانية وقال :
( رواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) والترمذي وحسنه وإسناده صحيح إلى عمرو فمن يصحح نسخته يصحح ) .
فلعله عند ابن خزيمة من طريق غير طريق ابن عجلان الذي رواه عنه الترمذي فإن إسنادا فيه ابن عجلان ما أعتقد أن الحافظ يصححه . والله أعلم .
قال الخطابي في ( المعالم ) :
( الحلق ) : مكسورة الحاء مفتوحة اللام : جماعة الحلقة وكان بعض مشايخنا يرويه أنه ( نهى عن الحلق ) بسكون اللام وأخبرني أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة يوم الجمعة فقلت له : إنما هو ( الحلق ) جمع الحلقة وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يشتغل بالصلاة وينصت للخطبة والذكر فإذا فرغ منها كان الاجتماع والتحلق بعد ذلك فقال : قد فرجت عني وجزاني خيرا وكان من الصالحين رحمه الله ) . وفي ( المرقاة ) :
( وعلة النهي أن القوم إذا تحلقوا في الغالب عليهم التكلم ورفع الصوت وإذا كانوا كذلك لا يستمعون الخطبة وهم مأمورون باستماعها . كذا قاله بعضهم وقال النوربشتي : النهي يحتمل معنيين : أحدهما : أن تلك الهيئة تخالف اجتماع المصلين والثاني : أن الاجتماع للجمعة خطب جليل لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ وتحلق الناس قبل الصلاة موهم للغفلة عن الأمر الذي ندبوا إليه . وفي ( شرح السنة ) : في الحديث كراهة التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ولا بأس بعد ذلك . وفي ( الإحياء ) : يكره الجلوس للحلق قبل الصلاة ) .
وفي ( نيل الأوطار ) :
( حمل الجمهور النهي على الكراهة وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الأول فالأول وقال الطحاوي : التحلق المنهي عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه فهو مكروه وغير ذلك لا بأس به . والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم والذكر . والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي واقد الليثي قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم . . . الحديث . وأما التحلق في المسجد في أمور الدنيا فغير جائز وفي حديث ابن مسعود : سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا أمانيهم الدنيا فلا تجالسوهم فإنه ليس لله فيهم حاجة . ذكره العراقي في ( شرح الترمذي ) قال : وإسناده ضعيف فيه بزيع أبو الخليل وهو ضعيف جدا ) .
قلت : حديث ابن مسعود هذا أورده الهيثمي في ( المجمع ) بهذا اللفظ وقال :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) وفيه بزيع أبو الخليل ونسب إلى الوضع ) .
وقال الذهبي في ( الميزان ) :
( متهم قال ابن حبان : يأتي عن الثقات بأشياء موضوعات كأنه المتعمد لها ) .
ثم ساق له الذهبي أحاديث هذا منها ثم قال :
( قال ابن عدي : له هكذا مناكير لا يتابع عليها ) .
لكن الحديث أورده المنذري في ( الترغيب ) بلفظ :
( وعن عبد الله - يعني : ابن مسعود رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة ) . رواه ابن حبان في ( صحيحه ) .
فالظاهر من هذا أن أبا الخليل لم ينفرد بالحديث وذلك لأمرين :
الأول : أن ابن حبان قد أساء القول فيه جدا كما سمعت فأستبعد جدا أن يروي له هذا الحديث في ( صحيحه ) فلا بد أن يكون رواه من طريق أخرى يدل على ذلك .
الأمر الثاني : وهو أن المنذري صدره ب ( وعن ) إشارة إلى أنه صحيح أو حسن أو ما قاربهما وهو لا يفعل ذلك ( إذا كان في الإسناد من قيل فيه : كذاب أو وضاع أو متهم أو مجمع على تركه أو ضعفه أو . . . ) كما صرح في مقدمة الكتاب فمثل هذا يصدره بلفظة : ( روي ) إشارة إلى ضعفه وقد رأيت أن أبا الخليل متهم بالوضع فلا يعقل إذن أن يصدر ما رواه بلفظة ( عن ) فدل هذا وما قبله على أن الحديث عند ابن حبان من طريق أخرى ومع ذلك فإني شخصيا لا أستطيع الاعتماد على مجرد تصحيح ابن حبان له قبل الاطلاع على سنده ورواته لما علمنا من تساهله في ذلك حسبما نبهنا عليه مرارا في مناسبات شتى فإن وقفنا عليه وحكمنا بصحته أو على الأقل بحسنه وجب ذكره في أصل الكتاب والله تعالى ولي التوفيق 59 .
ثم الحديث أورده الغزالي في ( الإحياء ) بلفظ :
( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا ولا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ) .
فقال الحافظ العراقي في تخريجه :
( رواه ابن حبان من حديث ابن مسعود والحاكم من حديث أنس وقال : صحيح الإسناد ) .
قلت : وهذا أمر ثالث يؤيد ما ذهبت إليه وذلك لأن الحديث لو كان عند ابن حبان من طريق أبي الخليل لما سكت عليه العراقي هنا كما لم يسكت عليه في ( شرح الترمذي ) كما سبق نقله عن الشوكاني . إلا أن سكوته على تصحيح الحاكم له غير جيد وأغرب من ذلك موافقة الذهبي له على تصحيحه فالحديث أخرجه في ( المستدرك ) من طريق أحمد بن بكر البالي : ثنا زيد بن الحباب : ثنا سفيان الثوري عن عون بن أبي جحيفة عن الحسن بن أبي الحسن عن أنس مرفوعا بلفظ :
( يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا ليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم ) . وقال :
( صحيح الإسناد ) وكذلك قال الذهبي .
وقد ذهل عما قيل في أحمد بن بكر هذا من الطعن مما ذكره هو نفسه في ( ميزانه ) وإليك نص كلامه :
( أحمد بن بكر البالسي ويقال له : ابن بكرويه أبو سعيد قال ابن عدي : روى مناكير عن الثقات ثم ساق له ثلاثة أحاديث منها عن حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن أبي سعيد مرفوعا : من أبغض عمر فقد أبغضني ومن أحبه فقد أحبني عمر معي حيث حللت وأنا مع عمر حيث حل . ثنا محمد بن حمدون النيسابوري : ثنا أحمد . وقال أبو الفتح الأزدي : كان يضع الحديث ) .
وزاد عليه الحافظ في ( اللسان ) ما ملخصه :
( وقال الدارقطني : وغيره أثبت منه . وقال في غرائب مالك : ضعيف . وذكره ابن حبان في ( الثقات ) وقال : كان يخطيء . قلت : وله حديث موضوع بسند صحيح رواه عنه عبد الله بن أحمد بن المفسر الثقة المصري - قال : وليس عندي عنه غيره - عن ابن جريج عن ابن عباس مرفوعا : من سعى لأخيه في حاجة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) .
( فائدة ) : وأما الحديث المشهور على الألسنة : ( الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) فلا أصل له وقد أورده الغزالي في ( الإحياء ) بلفظ : ( الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش ) . فقال مخرجه الحافظ العراقي :
( لم أقف له على أصل ) .
ثم إن الحديث قد رأيت اختلاف العلماء في علة النهي فيه عن التحلق ولا يمكن البت في شيء من ذلك لعدم وجود النص عن المعصوم ولكنه بإطلاقه يشمل كل تحلق ولو كان للعلم والمذاكرة وهو ما أفاده كلام البغوي في ( شرح السنة ) والخطابي في ( المعالم ) والله أعلم .
( 6 - تناشد الأشعار - وهو المفاخرة بالشعر والإكثار منه حتى يغلب على غيره وحتى يخشى منه كثرة اللغط والشغب مما ينافي حرمة المساجد - للحديث السابق :
( و( نهى ) أن تنشد فيه الأشعار ) وفي لفظ : ( وعن تناشد الأشعار ) .
الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . وقد سبق تخريجه قريبا واللفظ الآخر للترمذي والنسائي والبيهقي .
وله شاهد من حديث حكيم بن حزام قال :
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد أو تقام فيه الحدود أو ينشد فيه الشعر .
أخرجه الدارقطني .
وتفسير التناشد بما ذكر هو أحسن ما قيل في تفسيره وقد نقلته من تعليق العلامة أحمد محمد شاكر على الترمذي وبه يجمع بين الحديث والأحاديث المفيدة لجواز إنشاد الشعر في المساجد كما سيأتي ذكره في ( المباحات ) . رقم ( 11 ) .
وقد اختلف العلماء في ذلك فمن مانع مطلقا ومن مجيز مطلقا . قال القرطبي في ( تفسيره ) :
( والأولى التفصيل وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله عز وجل أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الذب عنهما كما كان شعر حسان أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها فهو حسن في المساجد وغيرها ) . قال : ( وما لم يكن كذلك لم يجز لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر والمساجد منزهة عن ذلك لقوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع } [ النور/36 ] وقد يجوز إنشاده في المسجد كقول القائل :
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز لأنه خال عن الفواحش والكذب ) .
( وللحديث الآتي : ( إنما بنيت المساجد لما بنيت له ) .
هو من حديث بريدة عند مسلم وغيره كما يأتي . قال النووي :
( معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها ) .
فلم تبن لتناشد الأشعار فيه فكان منهيا عنه 60 .
( 7 - نشدان الضالة وطلبها والسؤال عنها برفع الصوت للحديث السابق أيضا : ( و( نهى ) أن تنشد فيه الضالة ) .
الحديث جملة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقد سبق بتمامه فقرة ( 5 ) وسبق تخريجه هناك .
قال في ( النهاية ) :
( يقال : نشدت الضالة فأنا ناشد : إذا طلبتها وأنشدتها : إذا عرفتها وهو من النشيد : رفع الصوت ) .
وفي الحديث دليل على تحريم السؤال عن ضالة الحيوان في المسجد بشرط أن يكون برفع الصوت وقد ذهب إلى ذلك ابن حزم والصنعاني في ( سبل السلام ) وهو الحق إن شاء الله تعالى لأنه الظاهر من النهي ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقال للمنشد ما يأتي عقوبة له :
( وللحديث الآخر : ( جاء أعرابي بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فأدخل رأسه من باب المسجد ] فقال : من دعا ( أي : من وجد فدعاني ) إلى الجمل الأحمر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا وجدته [ لا وجدته لا وجدته ] إنما بنيت [ هذه ] المساجد لما بنيت له ) .
هو من حديث بريدة رضي الله عنه .
أخرجه مسلم والزيادة الأولى له وابن ماجه والطيالسي وأحمد وكذا ابن السني والبيهقي من طرق عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه به . والزيادة الثانية والثالثة لأحمد في رواية وله من الزيادة الأولى : ( صلاة الفجر ) وكذا للطيالسي عدا الزيادة الثانية والحديث عزاه المنذري للنسائي أيضا ولم أجده فيه فلعله في ( اليوم والليلة ) أو في ( السنن الكبرى ) له .
وللحديث شواهد :
الأول : عن جابر قال : جاء رجل ينشد ضالة في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا وجدت ) .
أخرجه النسائي من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عنه .
وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات لولا عنعنة أبي الزبير .
الثاني : عن أنس مثل حديث جابر . قال في ( المجمع ) :
( رواه الطبراني في ( الأوسط ) ورجاله ثقات ورواه البزار بإسناد ضعيف ) . وقال في موضع آخر :
( وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ) .
الثالث : عن سعد بن أبي وقاص مثله . قال الهيثمي :
( رواه البزار وفيه أبو سعيد الأغشم ولم أعرفه والحجاج بن أرطاة وهو مدلس ) .
الرابع : عن عبد الله بن مسعود قال : أمرنا إذا رأينا من ينشد ضالة في المسجد أن نقول له : لا وجدت .
رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن إسماعيل بن سمرة وهو ثقة .
ورواه الطبراني في ( الكبير ) عن ابن سيرين أو غيره قال : سمع ابن مسعود رجلا ينشد ضالة في المسجد فأسكته وانتهره وقال : قد نهينا عن هذا . قال المنذري وتبعه الهيثمي :
( وابن سيرين لم يسمع من ابن مسعود ) .
قلت : ورواه ابن السني من طريق الشعبي قال . . . فذكره بلفظ : فأغضبه فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن ما كنت فاحشا فقال : إنا أمرنا بذلك .
ورجاله ثقات إلا أنه منقطع أيضا فإن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود اتفاقا .
( ويجب على من سمع ذلك أن يقول للمنشد : ( لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ) فقد أمر بذلك عليه الصلاة والسلام في قوله : ( من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل . . . فذكره . وفي لفظ : ( لا أداها الله إليك ) .
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه سمعه منه أبو عبد الله مولى شداد بن الهاد .
أخرجه مسلم وابن ماجه وابن السني والبيهقي وأحمد واللفظ الآخر لهما من طريق حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود عنه . والحديث عزاه في ( الترغيب ) لأبي داود أيضا ولم أجده عنده الآن .
قال الصنعاني :
( والحديث دليل على تحريم السؤال عن ضالة الحيوان في المسجد وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو ذهب في المسجد ؟ قيل : يلحق للعلة وهي قوله : ( فإن المساجد لم تبن لهذا ) وإن من ذهب عليه متاع فيه أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين والداخلين له واختلف أيضا في تعليم الصبيان القرآن في المسجد وكأن المانع يمنعه لما فيه من رفع الأصوات المنهي عنه في حديث واثلة : ( جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم ) أخرجه عبد الرزاق والطبراني في ( الكبير ) وابن ماجه ) .
قلت : لكن هذا الحديث إسناده ضعيف كما سبق بيانه في الفقرة الأولى من الآداب وفي ( صحيح البخاري ) ما يعارضه وهو حديث كعب بن مالك :
أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته ونادى : ( يا كعب بن مالك يا كعب ) . قال : لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك قال كعب : قد فعلت يا رسول الله . قال رسول الله : ( قم فاقضه ) .
فهذا الحديث بظاهره يدل على جواز رفع الصوت في المسجد لغرض دنيوي لأنه عليه الصلاة والسلام ما أنكر على المتخاصمين رفع أصواتهما لكن قد روى البخاري قبله عن عمر ما يخالفه : عن السائب بن يزيد قال : ( كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال : اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال : من أنتما أو من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ؟ ) .
وترجم لهما البخاري ب :
( باب رفع الصوت في المساجد ) . قال الحافظ :
( أشار بالترجمة إلى الخلاف في ذلك فقد كرهه مالك مطلقا سواء كان في العلم أم في غيره وفرق غيره بين ما يتعلق بغرض ديني أو نفع دنيوي وبين ما لا فائدة فيه وساق البخاري في الباب حديث عمر الدال على المنع وحديث كعب الدال على عدمه إشارة منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه وعدمه فيما تلجيء الضرورة إليه . وقد تقدم البحث فيه في باب التقاضي ووردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت في المساجد لكنها ضعيفة أخرج ابن ماجه بعضها فكأن المصنف أشار إليها ) .
وقال في الباب الذي أشار إليه :
( وفي الحديث جواز رفع الصوت في المسجد وهو كذلك ما لم يتفاحش وقد أفرد له المصنف بابا يأتي قريبا والمنقول عن مالك منعه في المسجد مطلقا وعنه التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير وما لا بد منه فيجوز وبين رفعه باللغط ونحوه فلا قال المهلب : لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي صلى الله عليه وسلم ولبين لهما ذلك . قلت : ولمن منع أن يقول : لعله تقدم نهيه عن ذلك فاكتفى به واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك بالصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت ) والله أعلم .
ثم قال الصنعاني تحت قوله عليه الصلاة والسلام : فليقل : ( لا ردها الله عليك ) :
( عقوبة له لارتكابه في المسجد ما لا يجوز وظاهره أنه يقول جهرا وأنه واجب ) .
( أو يقول : ( لا وجدته ثلاث مرات إنما بنيت هذه المسجد لما بنيت له ) كما في الحديث الذي قبل هذا ) .
( 8 - البيع والشراء للحديث المتقدم ( فقرة 5 ) :
( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد ) .
ويجب أن يقال للبائع أو الشاري : ( لا أربح الله تجارتك ) بذلك أمر عليه الصلاة والسلام في قوله :
( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك . وإذا رأيتم من ينشد فيه [ ال ] ضالة فقولوا : لا رد [ ها ] الله عليك ) .
الحديث الأول من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو حسن الإسناد وقد سبق تخريجه هناك .
والحديث الثاني هو من حديث أبي هريرة مرفوعا .
أخرجه الترمذي والدارمي والحاكم والبيهقي من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي : أخبرنا يزيد ابن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه . وقال الترمذي :
( حديث حسن ) . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط مسلم ) ووافقه الذهبي .
وهو كما قالا .
وأخرجه ابن خزيمة أيضا كما في ( الترغيب ) وكذا النسائي وقيده الشوكاني : في ( اليوم والليلة ) . وروى ابن السني في ( عمل اليوم والليلة ) الشطر الأول بنحوه .
وكذلك رواه ابن حبان في ( صحيحه ) وابن حزم في ( المحلى ) الشطر الثاني بنحوه ايضا والزيادة الأولى للدارمي وكذا الترمذي في نسخة والأخرى للأول منهما وكذا البيهقي .
وقد روي الحديث عن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه مرفوعا بلفظ :
( من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا : فض الله فاك ثلاث مرات ومن رأيتموه ينشدها له في المسجد فقولوا : لا وجدتها ثلاث مرات ومن رأيتموه يبيع ويبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك ) . قال الهيثمي :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) وعبد الرحمن بن ثوبان لم أجد من ترجمه ) .
قلت : وقد روى ابن السني الجملة الأولى منه من طريق عباد بن كثير عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن جده .
وعباد هذا ضعيف .
وقد خالف الدراوردي في الإسناد والمتن جميعا وقد سبق .
ثم الحديث قال الترمذي :
( والعمل على هذا عند بعض أهل العلم كرهوا البيع والشراء في المسجد وهو قول أحمد وإسحاق وقد رخص فيه بعض أهل العلم في البيع والشراء في المسجد ) .
وذكر نحو هذا في الحديث الأول وقال الشوكاني :
( والحديثان يدلان على تحريم البيع والشراء فذهب الجمهور إلى أن النهي محمول على الكراهة قال العراقي : وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه هكذا قال الماوردي . وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين به بأن النهي حقيقة في التحريم وهو الحق وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد والأحاديث ترد عليه وفرق أصحاب أبي حنيفة بين أن يغلب ذلك ويكثر فيكره أو يقل فلا كراهة وهو فرق لا دليل عليه ) .
قلت : وممن صرح بالجواز ابن حزم في ( المحلى ) ونصه في ذلك :
( والبيع جائز في المسجد قال الله تعالى : { وأحل الله البيع } [ البقرة/275 ] ولم يأت نهي عن ذلك إلا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي صحيفة ) .
قلت : حديث عمرو بن شعيب فيه خلاف والأرجح أنه حسن الحديث كما سبق بيانه على أنه يرد عليه حديث أبي هريرة هذا وإسناده صحيح عنده فقد روى الشطر الثاني منه كما سبق واحتج به على تحريم إنشاد الضوال في المسجد فينبغي أن يكون مذهبه القول بتحريم البيع والشراء في المسجد لولا أن الحديث لم يصله بتمامه بل مختصرا .
وقد قال الصنعاني في ( شرحه ) :
( فيه دليل على تحريم البيع والشراء في المساجد وأنه يجب على من رأى ذلك فيه أن يقول لكل من البائع والمشتري : لا أربح الله تجارتك يقول جهرا زجرا للفاعل لذلك والعلة هي قوله فيما سلف : فإن المساجد لم تبن لذلك ) . قال الشيخ علي القاري في ( المرقاة ) :
( وجوز علماؤنا للمعتكف الشراء بغير إحضار المبيع ومن البدعة الشنيعة بيع ثياب الكعبة خلف المقام وبيع الكتب وغيرها في المسجد الحرام وأشنع منه وضع المحفات والقرب والدبش فيه سيما أيام الموسم ووقت ازدحام الناس . والله ولي أمر دينه ولا حول ولا قوة إلا به ) .
( 9 - إقامة الحدود والقصاص لقوله عليه الصلاة والسلام : ( لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها ) .
الحديث من رواية حكيم بن حزام رضي الله عنه .
أخرجه الدارقطني وأحمد من طريق وكيع : ثنا محمد بن عبد الله الشعيثي عن العباس بن عبد الرحمن المدني ( وقال الدارقطني : المكي ) عن حكيم به .
ورجاله ثقات غير العباس بن عبد الرحمن هذا فقال الحسيني في ( التذكرة ) كما في ( التعجيل ) :
( مجهول ) . ثم تبعه الحافظ بقوله :
( قلت : كذا قرأت بخط الحسيني وهو غلط قبيح والذي في مسند حكيم بن حزام من ( مسند أحمد ) : عن وكيع عن محمد بن عبد الله الشعيثي عن القاسم بن عبد الرحمن المزني عن حكيم في خلوق المساجد مرفوعا . وعن حجاج عن الشعيثي عن زفر بن وثيمة عن حكيم وهكذا هو في ترجمة زفر ابن وثيمة عن حكيم من ( الأطراف ) للمزي . وذكر رواية داود وقال : رواه وكيع عن الشعيثي فلم يرفعه .
قلت : وفي الجملة فليس للعباس بن عبد الرحمن في حديث حكيم مدخل في ( مسند أحمد ) والله أعلم وأما قوله : المدني فهو تحريف وإنما هو المزني بضم الميم بعدها زاي منقوطة ) .
هكذا حكم الحافظ على الحسيني بالغلط فادعى أن المترجم هو القاسم ابن عبد الرحمن المزني لا العباس بن عبد الرحمن المدني . والظاهر أن أصل هذا الاختلاف نشأ من اختلاف نسخ ( المسند ) في اسم المترجم ويؤيد ذلك أن نسختنا المطبوعة موافقة لما ذكره الحسيني تمام الموافقة ولا ندري نحن الصواب من ذلك لأن الأمر يحتاج إلى التدقيق في نسخ كثيرة مصححة من ( المسند ) وأنى لنا ذلك ولعل العلامة الأستاذ أحمد محمد شاكر قد حقق ذلك في طبعته الجديدة ل ( المسند ) .
غير أنه ترجح لدي أنه العباس بن عبد الرحمن لأنه كذلك في رواية الدارقطني وإن خالفت في نسبته كما سبقت الإشارة إليه فذلك لا يمنع من ترجيح ما اتفقت الروايتان عليه .
وفي كلام الحافظ مخالفة أخرى لما في نسختنا من ( المسند ) فقال كما سلف :
( عن حكيم في خلوق المساجد ) .
وليس لحكيم أي حديث بهذا المعنى في ( المسند ) وقد أخرج أحاديث كثيرة في موضعين منه لكن يغلب على الظن أن في نسختنا من ( التعجيل ) تحريفا وأن الأصل : ( في الحدود في المساجد ) والله أعلم .

وبالجملة فالراجح أن المترجم هو العباس بن عبد الرحمن خلافا لما زعم الحافظ وأما انه مدني أو مكي فذلك مما لم يتحرر عندنا .
هذا وفي رجال ( التهذيب ) :
( عباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم عن العباس بن عبد الملطب وأبي هريرة وعنه داود بن أبي هند ) . وقال الحافظ في ( التقريب ) :
( إنه مستور ) .
قلت : فلعله هو المترجم فإنه من طبقته والله أعلم .
ثم إن للشعيثي في هذا الحديث شيخا آخر .
أخرجه أبو داود والدارقطني عن صدقة بن خالد والحاكم عن زهير بن عنيد كلاهما عن محمد بن عبد الله النضري عن زفر بن وثيمة عن حكيم بن حزام أنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد أو تقام فيه الحدود وأن ينشد فيه الشعر .
وخالفهما حجاج فقال : ثنا الشعيثي عن زفر بن وثيمة به موقوفا على حكيم .
أخرجه أحمد وقال :
( لم يرفعه ) يعني حجاجا .
قلت : وصدقة بن خالد ثقة احتج به البخاري وقد رفعه وهي زيادة يجب قبولها لا سيما وقد تابعه زهير بن هنيد وهو مقبول كما في ( التقريب ) .
وكذلك تابعه وكيع عن الشعيثي من الطريق الأولى مرفوعا . وقد سبق عن ( التعجيل ) أن المزي قال :
( رواه وكيع عن الشعيثي فلم يرفعه ولم أجد هذه الرواية الآن ) .
ثم إن الحديث سكت عليه الحاكم وسقط من ( التلخيص ) للذهبي وقال في ترجمة زفر بن وثيمة من ( الميزان ) بعد أن ساق له هذا الحديث :
( ضعفه عبد الحق - أعني الحديث - وقال ابن القطان : علته الجهل بحال زفرح تفرد عنه محمد بن عبد الله الشعيثي . قلت : وقد وثقه ابن معين ودحيم ) .
واختلف فيه قول الحافظ فقال : في ( بلوغ المرام ) :
( سنده صعيف ) . وقال في ( التلخيص ) :
( ولا بأس بإسناده ) .
وعندي أن الحديث حسن بالنظر إلى متابعة العباس بن عبد الرحمن لزفر ابن وثيمة فأحدهما يقوي الآخر وفي ( المرقاة ) :
( إنه حسن كما أفاده بعض الحفاظ ) .
قلت : وقد يرقى إلى درجة الصحيح لغيره بشواهده التي منها :
عن ابن عباس مرفوعا بلفظ :
( لا تقام الحدود في المسجد ولا يقتل الوالد بالولد ) .
أخرجه الترمذي والدارمي وابن ماجه والدارقطني من طريق إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عنه . وقال الترمذي :
( لا نعرفه بهذا الإسناد مرفوعا إلا من حديث إسماعيل بن مسلم وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ) .
قلت : ولكنه لم يتفرد به بل تابعه قتادة .
أخرجه البزار في ( مسنده ) عنه عن عمرو بن دينار كما في ( نصب الراية ) .
قلت : وكذلك رواه الدارقطني من طريق أبي المغيرة : نا سعيد بن بشير عن قتادة به .
ورواه الحاكم عن أبي الجماهر محمد بن عثمان : ثنا سعيد بن بشير : ثنا عمرو بن دينار به .
فأسقط من بينهما قتادة ولعل سعيد بن بشير سمعه من قتادة أولا ثم سمعه عن عمر مباشرة فقد صرح بسماعه منه . وهو - أعني سعيدا - مختلف فيه وهو عندي حسن الحديث إذا لم يخالف وأما الحافظ فضعفه في ( التقريب ) .
وتابعه عبيد الله بن الحسن العنبري عن عمرو بن دينار به .
أخرجه الدارقطني : ونا عبد الباقي بن قانع : نا الحسن بن علي العمري :
نا عقبة بن مكرم العمي نا تمار عمر بن عامر أبو حفص السعدي - وكان ينزل في بني رفاعة - عن عبيد الله بن الحسن العنبري به .
وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات في رجال مسلم غير ابن قانع والمعمري وهما ثقتان .
والحديث عزاه السيوطي في ( الجامع ) لأحمد أيضا وقد راجعت منه مسند ابن عباس فلم أعثر عليه . والله أعلم .
وقد رواه البيهقي أيضا في ( سننه ) من الوجه الأخير .
ومنها عن ابن لهيعة عن محمد بن عجلان أنه سمع عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحدود في المساجد .
أخرجه ابن ماجه .
وهذا سند حسن في الشواهد فإن ابن لهيعة ثقة وإنما يخشى من سوء حفظه .
ومنها عن جبير بن مطعم بلفظ :
( لا تقام الحدود في المساجد ) . قال في ( المجمع ) :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) وفيه الواقدي وهو ضعيف ) .
وقال في موضع آخر :
( رواه البزار وفيه الواقدي وهو ضعيف لتدليسه وقد صرح بالسماع ) .
وفي الباب عن واثلة بن الأسقع بلفظ :
( جنبوا مساجدكم صبيانكم . . . ) الحديث . وفيه :
( وإقامة حدودكم ) .
وسنده ضعيف وقد تقدم في الكلام على الفقرة الأولى من الآداب .
والحديث يدل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الاستقادة فيها لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي . كذا في ( النيل ) ونحوه في ( سبل السلام ) .
فمن ذهب إلى أن النهي للتنزيه كالشافعية فعليه الدليل قال المناوي في ( الفيض ) :
( فيكره ذلك تنزيها نعم لو التجأ إليه من عليه قود جاز استيفاؤه فيه حتى المسجد الحرام فيبسط النطع ويستوفي فيه تعجيلا لاستيفاء الحق عند الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يقتل في الحرم بل يلجأ إلى الخروج ) .
قلت : والظاهر ما قاله أبو حنيفة لأن الحديث أطلق ولم يفصل وفي ( المرقاة ) :
( لأن في ذلك نوع هتك لحرمته ولاحتمال تلوثه بجرح أو حدث وقول ابن أبي ليلى : تقام شاذ . كذا ذكره ابن حجر . قال ابن الملك : لئلا يتلوث المسجد . وفي ( شرح السنة ) : قال عمر رضي الله عنه فيمن لزمه حد في المسجد : أخرجوه . وعن علي مثله ) .
والمعروف من هديه عليه الصلاة والسلام إقامة الحدود خارج المسجد كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ماعز فقال رضي الله عنه :
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال : يا رسول الله إني زنيت . فأعرض عنه حتى رد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع مرات . . . الحديث . وفيه : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أذهبوا به فارجموه ) قال جابر ابن عبد الله : فرجمناه بالمصلى . ا . ه مختصرا من البخاري ومسلم وأحمد .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال :
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم اليهودي واليهودي عند باب المسجد . . . الحديث .
أخرجه أحمد والحاكم من طريق ابن إسحاق : قال : وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إسماعيل بن إبراهيم الشيباني عنه . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط مسلم ) قال :
( ولعل متوهما من غير أهل الصنعة يتوهم أن إسماعيل الشيباني هذا مجهول وليس كذلك فقد روى عنه عمرو بن دينار ) . وأقره الذهبي .
قلت : والشيباني هذا ليس بمجهول كما قال الحاكم بل هو معروف ولكنه ليس من رجال مسلم فكيف يصححه على شرطه ؟ بل لم يرو عنه أحد من أصحاب الكتب الستة وإنما هو من رجال ( التعجيل ) وقد ذكر في ترجمته :
( قال أبو زرعة : ثقة يعد في الكوفيين وذكره ابن حبان في ( الثقات ) .
وكذلك محمد بن طلحة ليس من رجال مسلم وإن كان ثقة وابن إسحاق إنما روى له مقرونا بغيره .
وبالجملة فإسناد الحديث حسن وقد سكت عليه الحافظ في ( الفتح ) .
( 10 - البصق لا سيما نحو القبلة واليمين وهو حرام فقد رأى صلى الله عليه وسلم بصاقا في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس [ فتغيظ عليهم ] فقال :
( إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى ) .
الحديث من رواية نافع عن ابن عمر رضي الله عنه .
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طريق مالك وهو في ( الموطأ ) والدارمي وابن ماجه والطيالسي وأحمد من طرق عنه . وكذلك أخرجه البيهقي والزيادة للبخاري وأبي داود والدارمي وأحمد وزاد هذا في رواية :
( ولا عن يمينه ثم دعا بعود فحكه ثم دعا بخلوق فخضبه ) .
وقد سبقت .
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العراجين ولا يزال في يديه منها فدخل المسجد فرأى نخامة في قبلة المسجد فحكها ثم أقبل على الناس مغضبا فقال : أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه ؟ إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه جل وعز والملك عن يمينه فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فإن عجل به أمر فليقل هكذا - ووصف ابن عجلان ذلك - أن يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه على بعض .
أخرجه أبو داود والحاكم وأحمد عن ابن عجلان عن عياض بن عبد الله عنه . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط مسلم ) ووافقه الذهبي .
وليس كذلك وإنما حسن فقط ليس على شرط مسلم لما سبق بيانه مرارا . وفي ( الترغيب ) :
( رواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) وفي رواية له بنحوه إلا أنه قال فيه :
( فإن الله عز وجل بين أيديكم في صلاتكم فلا توجهوا شيئا من الأذى بين أيديكم . . . الحديث ) وبوب عليه ابن خزيمة : ( باب الزجر عن توجيه جميع ما يقع عليه اسم أذى تلقاء القبلة في الصلاة ) .
قلت : وللحديث طريق أخرى عن أبي سعيد تأتي قريبا إن شاء الله تعالى .
وهو يدل على تحريم البصاق في المسجد نحو القبلة من وجهين :
الأول : تغيظه صلى الله عليه وسلم عليهم حينما رأى البصاق في القبلة .
والآخر : نهيه عليه الصلاة والسلام إياهم عن ذلك والنهي الأصل فيه التحريم . قال الحافظ العراقي في ( شرح التقريب ) :
( هذا النهي عن بصاق المصلي أمامه أو عن يمينه هل هو على التحريم أو التنزيه قال القرطبي : إن إقباله صلى الله عليه وسلم على الناس مغضبا يدل على تحريم البصاق في جدار القبلة وعلى أنه يكفر بدفنه وبحكه كما قال في جملة المسجد : البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها . قلت : ويدل على تحريم البصاق في القبلة ما رواه ابو داود بإسناد جيد من حديث السائب بن خلاد أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة . قلت : فذكر الحديث الآتي بعد هذا وفيه : أنه عليه الصلاة والسلام قال له : إنك آذيت الله ورسوله . وأطلق جماعة من الشافعية كراهة البصاق في المسجد منهم المحاملي وسليم الرازي والروياني وأبو العباس الجرجاني وصاحب ( البيان ) وجزم النووي في ( شرح المهذب ) التحقيق بتحريمه وكأنه تمسك بقوله في الحديث الصحيح أنه خطيئة ) . وقال الحافظ :
( وهذا التعليل ( يعني قوله : ( فإن الله قبل وجهه ) يدل على أن البزاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أم لا ولا سيما من المصلي فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل هي للتنزيه أو للتحريم ؟ ) .
ثم ساق حديث السائب وحديث حذيفة ويأتي أيضا .
( و( أم رجل قوما فبصق في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ : ( لا يصلي لكم ) فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم ) فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( نعم ) وحسبت أنه قال : ( إنك آذيت الله ورسوله ) .
الحديث أخرجه أبو داود والزيادة له وأحمد من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة الجذامي عن صالح ابن خيوان عن أبي سهلة السائب بن خلاد أن رجلا أم قوما . . . الحديث .
سكت عليه المنذري في ( مختصره ) وكذا الحافظ في ( الفتح ) وقال شيخه العراقي في ( شرح التقريب ) :
( إسناده جيد ) .
ورواه ابن حبان أيضا في ( صحيحه ) كما في ( الترغيب ) .
ورجال إسناد الحديث ثقات رجال مسلم غير صالح بن خيوان - بالمعجمة ويقال : بالمهملة - وثقه العجلي وابن حبان مع أنه ما روى عنه سوى بكر هذا كما صرح به الذهبي في ( الميزان ) ولذلك قال عبد الحق الأزدي :
( لا يحتج به ) .
وعاب ذلك عليه ابن القطان وصحح حديثه .
قلت : والقواعد العلمية تشهد لما قاله الأزدي غير أن الحديث حسن أو صحيح لأن له شاهدا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه بمعناه أورده المنذري وقال :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) بإسناد جيد ورجاله ثقات ) كما في ( المجمع ) .
( وقال عليه الصلاة والسلام : ( من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه ) .
الحديث من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه .
أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح وله تتمة :
( ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا ) .
وقد مضى الكلام فيه .
وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا بلفظ :
( يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه ) .
رواه البزار وابن خزيمة في ( صحيحه ) وهذا لفظه وابن حبان في ( صحيحه ) كما في ( الترغيب ) . وفي طريق البزار عاصم بن عمر : ضعفه البخاري وجماعة وذكره ابن حبان في ( الثقات ) كما في ( المجمع ) .
وهذا الحديث يدل بظاهره على كراهة التفل في القبلة داخل الصلاة وخارجها لعدم تقييده بحال الصلاة . قال الحافظ :
( وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها سواء كان في المسجد أم غيره وقد نقل عن مالك أنه قال : لا بأس به - يعني خارج الصلاة - ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره عن ابن مسعود أنه كره [ أن ] يبصق عن يمينه وليس في صلاة . وعن معاذ بن جبل قال : ما بصقت عن يميني منذ أسلمت . وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى عنه ابنه مطلقا ) .
قلت : وأثر ابن مسعود أخرجه الطبراني أيضا في ( الكبير ) ورجاله ثقات كما في ( المجمع ) . وأما حديث عمرو بن حزم :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بزق عن يمينه وعن يساره وبين يده .
فلا يصح بل هو ضعيف جدا فيه الواقدي أخرجه الطبراني في ( الكبير ) أيضا .
( وإن كان لا بد من البصق فليبصق عن شماله إن كان فارغا من المصلين وإلا فتحت قدمه اليسرى بشرط أن يمكن دفنه فيه بن يكون أرضه من رمل أو حصى لا من بلاط أو مفروشا بالبسط وإلا فليبصق في ثوبه أو نعله لقوله عليه السلام .
( [ ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه ؟ أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه ؟ ] إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا وليبصق عن يساره ( زاد في حديث ثان : ( إن كان فارغا ) أو تحت قدمه [ اليسرى ] فليدفنه ) زاد في حديث ثالث : ( فإن لم يجد مبصقا ففي ثوبه أو نعله ) .
الحديث ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم .
الأول : أبو هريرة رضي الله عنه .
وله عنه طرق :
1 - عبد الرزاق بن همام عن معمر عن همام سمع أبا هريرة رضي الله عنه مرفوعا به والسياق له .
أخرجه البخاري وأحمد والبيهقي .
2 - ابن شهاب الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة وأبا سعيد ثناه :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحكها فقال . . . فذكره بنحوه وفيه الزيادة الثانية التي بين قوسين ولفظه :
( إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى ) .
أخرجه البخاري ومسلم والدارمي والبيهقي وأحمد ورواية عن أبي هريرة وعن أبي سعيد وعنه وحده الطيالسي وكذا النسائي وهي رواية للشيخين .
3 - إسماعيل بن علية عن القاسم بن مهران عن أبي رافع عنه به نحوه وفي الزيادة الأولى وفي آخره نحو ما جاء في الحديث الثالث بلفظ :
( فإن لم يجد فليقل هكذا . ووصف القاسم : فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض ) .
أخرجه مسلم وابن ماجه وأحمد .
ثم أخرجه مسلم والنسائي وأحمد أيضا وكذا البيهقي من طريق شعبة عن القاسم به نحوه وزاد مسلم والبيهقي في رواية هشيم عن القاسم : قال أبو هريرة :
( كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد ثوبه بعضه على بعض ) .
( تنبيه ) : القاسم بن مهران هذا هو القيسي مولاهم وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره وقد اختلط على المنذري بغيره حيث قال في ( الترغيب ) :
( وروى ابن ماجه عن القاسم بن مهران - وهو مجهول - عن أبي رافع عن أبي هريرة ) .
قلت : فساق الحديث . والقاسم بن مهران المجهول هو غير هذا الذي روى الحديث عن أبي رافع هو متقدم على هذا روى عن عمران بن حصين ولا يثبت سماعه منه وعن موسى بن عبيدة وقد فرق بينهما الذهبي وغيره . ثم إن في عزو الحديث لابن ماجه وحده ما فيه من القصور . فسبحان من لا يخفى عليه خافية .
الثاني : أنس بن مالك .
وله عنه طريقان :
1 - حميد عنه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكه بيده فقال :
( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزق أحدكم قبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض فقال :
( أو يفعل هكذا ) .
أخرجه البخاري والدارمي والبيهقي وأحمد وإسناده عنده ثلاثي . وقد صرح حميد بسماعه من أنس عند عبد الرزاق فأمن تدليسه كما في ( الفتح ) .
2 - قتادة عنه مختصرا بدون سبب الحديث ولا قوله : ثم أخذ . . . إلخ .
أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي والطيالسي وأحمد من طرق عنه . وقد صرح بسماعه من أنس عند البخاري وهي رواية للبيهقي وغيره .
الثالث : أبو سعيد الخدري .
وله عنه أربعة طرق :
1 - الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عنه . وقد سبق في حديث أبي هريرة من الطريق الثاني .
2 - فليح عن سعيد بن الحارث عن أبي سلمة عنه قال :
هذه عراجين جعل الله لنا فيها بركة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها ويتخصر بها فكنا نقومها ونأتيه بها فرأى بصاقا في قبلة المسجد وفي يده عرجون من تلك العراجين فحكه وقال . . . فذكره . وهو الحديث الثالث الذي فيه الزيادة في آخره .
أخرجه أحمد .
وإسناده صحيح على شرط الستة .
3 - ابن عجلان عن عياض بن عبد الله عنه . وقد سبق لفظه وتخريجه في أول اكللام على هذه الفقرة .
4 - حماد عن ثابت عن أبي نضرة عنه مختصرا جدا بلفظ :
أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في ثوبه ثم دلك .
أخرجه حمد .
وإسناده صحيح على شرط مسلم .
الرابع : جابر بن عبد الله .
وله عنه طريقان :
1 - عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عنه نحو حديث أبي سلمة عن أبي سعيد ولفظ المرفوع منه :
( أيكم يحب أن يعرض الله عنه ؟ ) ثم قال :
( إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبزق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا ) ووضعه على فيه ثم دلكه . . . الحديث .
وقد سبق تخريجه في الكلام على الفقرة الأولى من الآداب عند حديث : ( رأى نخامة في قبلة المسجد ) .
2 - أبو الزبير عنه مختصرا دون ذكر السبب بلفظ :
( أو تحت قدمه اليسرى ) .
أخرجه أحمد .
ورجاله ثقات رجال مسلم فهو صحيح الإسناد إن كان أبو الزبير سمعه منه .
الخامس : طارق بن عبد الله مرفوعا بلفظ :
( إذا صليت فلا تبصق بين يديك ولا عن يمينك ولكن ابصق تلقاء شمالك إن كان فارغا وإلا فتحت قدميك وادلك ) .
أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي والطيالسي وأحمد واللفظ له من طرق عن منصور قال : سمعت ربعي بن خراش عنه به . وقال الحاكم :
( صحيح ) . ووافقه الذهبي .
وهو كما قالا .
وأخرجه الترمذي وابن ماجه دون قوله : ( إن كان فارغا ) وقوله : ( وادلكه ) . وقال الترمذي :
( حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم ) .
وهذا الحديث هو الحديث الثاني المشار إليه في الأصل .
وفي هذه الأحاديث دلالة على تحريم البصاق في المسجد نحو القبلة واليمين لنهيه عليه الصلاة والسلام وتغليظه على من خالف ذلك حتى إنه عزل الإمام الذي فعل ذلك من الإمامة وقال له : ( إنك آذيت الله ورسوله ) فهو أكبر دليل على التحريم وقد سبق ذكر ما قاله الأئمة في ذلك قريبا .
وفيها دلالة صريحة على جواز البصق فيه نحو اليسار أو تحت القدم اليسرى بشرطه وهو الدفن ففيه رد على النووي حيث قال في ( شرحه ) على مسلم :
( وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وليبزق تحت قدمه وعن يساره ) هذا في غير المسجد أما المصلي في المسجد فلا يبزق إلا في ثوبه ) .
ووجه الرد عليه أن قوله عليه الصلاة والسلام هذا إنما قاله بخصوص المسجد حينما رأى النخامة في قبلته فنهاهم عن ذلك وعن البصق نحو اليمين ورخص لهم بالبزق فيه تحت القدم وعن اليسار وأمرهم بدفنه بقوله : ( فليدفنه ) . فمن خالف ولم يدفن فقد أثم وإلا فلا .
وأما تعليق النووي لما ذهب بقوله :
( لقوله صلى الله عليه وسلم : ( البزاق في المسجد خطيئة ) فكيف يأذن فيه صلى الله عليه وسلم ) .
قلت : قد قضي الأمر وأذن فيه عليه الصلاة والسلام وإنما جاء الإشكال من فهمه للحديث الذي ذكره والآتي بعده على خلاف ما فهم العلماء كما صرح هو نفسه وسننقل كلامه في ذلك إن شاء الله ليتبين لك الحق .
( وقال عليه الصلاة والسلام : ( البصاق ( وفي لفظ : التفل . وفي آخر : النخاعة ) في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) .
الحديث رواه قتادة عن أنس مرفوعا .
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه والدارمي والبيهقي والطيالسي وأحمد من طرق عنه . واللفظ الثاني لمسلم وأبي داود وأحمد في رواية لهم والآخر لهم إلا مسلما وفي رواية النسائي ( البصاق ) . بالصاد بدل الزاي .
( التفل ) - بالمثناة الفوقية - : نفخ معه أدنى بزاق وهو أكثر من النفث .
( و( النخامة ) وهي ( النخاعة ) من الرأس أيضا ومن الصدر ويقال : تنخم وتنخع ) .
( وفي رواية : ( التفل في المسجد سيئة ودفنه حسنة ) .
هي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا .
أخرجها أحمد : ثنا زيد بن الحباب : أنا حسين بن واقد : ثنا أبو غالب أنه سمع أبا أمامة .
وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال مسلم غير أبي غالب وهو صدوق يخطيء كما في ( التقريب ) وفي ( المجمع ) :
( رواه أحمد والطبراني في ( الكبير ) إلا أنه قال : ( خطيئة وكفارتها دفنها ) ورجال أحمد موثقون ) . وقال المنذري :
( إسناده لا بأس به ) . وقال الحافظ في ( الفتح ) :
( إسناده حسن ) .
وروى أبو داود وعنه البيهقي فقال : ثنا القعنبي : ثنا أبو مودود عن عبدالرحمن بن أبي حدرد الأسلمي : سمعت أبا هريرة مرفوعا :
( من دخل هذا المسجد فبزق فيه أو تنخم فليحفر فليدفنه فإن لم يفعل فليبزق في ثوبه ثم ليخرج به ) .
وأخرجه أحمد عن زيد بن الحباب وعن وكيع كلاهما عن أبي مودود به نحوه ولفظ وكيع :
( إذا بزق أحدكم في مسجدي أو المسجد فليحفر وليعمق أو ليبزق في ثوبه حتى يخرجه ) .
وهذا إسناد سكت عليه المنذري في ( مختصره ) وهو محتمل للتحسين .
أبو مودود اسمه عبد العزيز بن أبي سليمان وقد وثقه أبو داود وروى عنه جمع من الثقات .
وعبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي قال الدارقطني :
( لا بأس به ) . وقال في التقريب :
( إنه مقبول ) .
وكذلك قال في أبي مودود . والله أعلم .
( وقال : ( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن ) .
الحديث من رواية أبي ذر رضي الله عنه .
أخرجه مسلم وابن ماجه والطيالسي وأحمد .
( وقال : إذا تنخم أحدكم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فيؤذيه ) .
هو من حديث سعد بن أبي وقاص .
أخرجه أحمد : ثنا ابن أبي عدي عن ابن إسحاق ويعقوب : ثنا أبي عن ابن إسحاق : ثني عبد الله بن محمد قال يعقوب : ابن أبي عتيق عن عامر بن سعد حدثه عن أبيه سعد .
وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير ابن إسحاق وهو حسن الحديث . وفي ( المجمع ) :
( رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون ) . وقال الحافظ :
( رواه أحمد بإسناد حسن ) .
وهذه الأحاديث تدل على ما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم وهو جواز البصق في المسجد - عند الحاجة طبعا - إذا دفنه قال الحافظ العراقي في ( شرح التقريب ) :
( قال أبو الوليد الباجي : فإن بصق في المسجد وستر بصاقه فلا إثم عليه وحكى القرطبي أيضا عن ابن مكي أنه إنما يكون خطيئة لمن تفل فيه ولم يدفنه . قال القرطبي : وقد دل على صحة هذا قوله في حديث أبي ذر : ( ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن ) فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل بذلك وببقائها غير مدفونة . قلت : ويدل عليه أيضا إذنه في ذلك في حديث الباب ( يعني حديث أبي هريرة السابق ) بقوله : ( أو تحت رجليه فيدفنه ) . إن حملنا الحديث على إرادة كونه في المسجد كما تقدم وهو مصرح به في حديث أبي سعيد وأبي هريرة المذكور في أول الباب ) .
وخالف في ذلك النووي وبالغ حيث قال في ( شرح مسلم ) :
( واعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقا سواء احتاج إلى البزاق أو لم يحتج بل يبزق في ثوبه فإن بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق . هذا هو الصواب أن البزاق خطيئة كما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال العلماء والقاضي عياض : فيه كلام باطل حاصله أن البزاق ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة واستدل له بأشياء باطلة فقوله هذا غلط مخالف لنص الحديث ) . قال الحافظ :
( وحاصل النزاع أن هنا عمومين تعارضا وهما قوله : ( البزاق في المسجد خطيئة ) وقوله : ( وليبصق عن يساره أو تحت قدمه ) . فالنووي يجعل الأول عاما ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاما ويخص الأول بمن لم يرد دفنها وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في ( التنقيب ) والقرطبي في ( المفهم ) وغيرهما . ويشهد لهم ) . ثم ذكر حديث سعيد بن أبي وقاص ثم حديث أبي أمامة وقال : ( إنه أوضح منه في المقصود ) . ثم حديث أبي ذر وكلام القرطبي المتقدم فيه ثم قال : ( وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح : أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها ثم قال : الحمد لله الذي لم يكتب علي خطيئة الليلة .
فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها لا بمن دفنها وعلة النهي ترشد إليه وهي تأذي المؤمن بها ومما يدل على أن عمومه مخصوص : جواز ذلك في الثوب ولو كان في المسجد بلا خلاف وعند أبي داود من حديث عبد الله ابن الشخير أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله . إسناده صحيح وأصله في مسلم . والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم ) .
قلت : وتخصيص النووي للحديث الثاني الذي أشار إليه الحافظ بما إذا لم يكن في المسجد باطل لأنه ورد في خصوص المسجد كما سبق عن العراقي
فكيف يجوز تخصيصه بغير ما ورد الحديث لأجله ؟
والحق أنه لا تعارض بين الحديثين مطلقا :
فالحديث الأول - وما في معناه - أفاد أن البصق في المسجد خطيئة إذا لم يدفنها وأما إذا دفنها فليست بخطيئة لأنه - أعني الدفن - حسنة أطاحت خطيئة البصق كما في حديث أبي أمامة .
والحديث الثاني - أي حديث أبي هريرة المتقدم - إنما أجاز البصق مع الدفن كما سبق فإذا لم يدفنها فقد ارتكب الخطيئة لا محالة وحينئذ فالحديثان متفقان . والحمد لله .
ثم قال الحافظ العراقي :
( في قوله : ( فيدفنه ) . ما يقتضي أن الترخص في البصاق في المسجد هو ما إذا كان فراش المسجد حصى أو ترابا دون ما إذا كان رخاما أو بلاطا أو بساطا أو حصيرا وقد حكاه صاحب ( المفهم ) عن بعضهم فقال : وقد سمعنا من بعض مشايخنا أن ذلك إنما يجوز إذا لم يكن في المسجد إلا التراب أو الرمل كما كانت مساجدهم في الصدر الأول فأما إذا كانت في المسجد بسط وما له بال من الحصير بما يفسده البصاق ويقذره فلا يجوز احتراما للملائكة . قلت : قد ورد دلكها بالنعل عوضا عن الدفن فيما رواه مسلم من حديث عبد الله بن الشخير قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته تنخع فدلكها بنعله . وهذا يحتمل أن يكون أيضا في تراب أو حصباء فيحصل بدلكها دفنها في التراب . وقال الباجي : ليس له أن يبصق في الأرض ويحكه برجله لأن ذلك يقذر الموضع لمن أراد الجلوس فيه . قلت : قد روى أبو داود من رواية أبي سعيد ( كذا في الأصل والصواب : أبو سعد ) قال :
رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق يبصق على البوري ثم مسحه برجله فقيل له لم فعلت ؟ قال : لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله .
والبوري : الحصير المعمولة من القصب قاله الهروي في ( الغريبين ) وعلى هذا فهي لا تفسد بذلك والحديث أيضا لا يصح ) .
قلت : وعلة هذا الحديث أبو سعد هذا وهو الحمصي الحميري رواه عنه الفرج بن فضالة عند أبي داود . قال الذهبي في ( الميزان ) :
( ما روى عنه سوى الفرج بن فضالة ) .
قلت : فهو مجهول وقد صرح بذلك الحافظ في ( التقريب ) .
والفرج بن فضالة ضعيف أيضا كما قال المنذري في ( مختصره ) وبه أعل الحديث وكذلك قال في ( التقريب ) .
( 11 - البول ونحوه لقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي دخل المسجد ثم بال فيه : ( إنما بني هذا البيت لذكر الله والصلاة وإنه لا يبال فيه ) .
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه .
أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن حبان في ( صحيحه ) وقد تقدم ذكره بتمامه في الكلام على طهارة المكان - المسألة الخامسة .
وله شاهد من حديث أنس بلفظ :
( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء ) .
رواه مسلم وغيره وقد سبق هناك .
وفي الحديث دليل على وجوب تنزيه المساجد عن البول وسائر النجاسات . قال العراقي :
( وهو كذلك إذا أدى ذلك إلى تلويثها بالنجاسة فإن لم تلوث كأن بال في إناء أو افتصد في إناء في المسجد فالأصح تحريم البول وكراهة الافتصاد دون تحريمه وقد جزم النووي في ( شرح مسلم ) بكراهة الفصد في الإناء ولم يحك فيه خلافا . قال العراقي : وكذلك من على بدنه أو ثوبه نجاسة إذا أمن تلوث المسجد بها جاز دخوله وإن خاف ذلك لم يجز ) . وقال ابن حزم في ( المحلى ) :
( ولا يجوز البول في المسجد فمن بال فيه صب على بوله ذنوبا من ماء ولا يجوز البصاق فيه فمن بصق فيه فليدفن بصقته . ثم قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتنظيف المساجد وتطييبها - كما أوردنا قبل - يقتضي كل ما وقع عليه اسم تنظيف وتطييب والتنظيف والتطييب يوجبان إبعاد كل محرم وكل قذر وكل قمامة فلا بد من إذهاب عين البول وغيره ) .
( وليعلم أن هذه النواهي وما قبلها من الأوامر هي من الرفع المذكور في قوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } [ النور/36 ] ) .
وقد سبق الكلام عليه في الكلام على الأمر الثاني مما ينبغي أن يلاحظ في بناء المساجد فليراجع .
( 12 - اتخاذه طريقا لقوله عليه الصلاة والسلام :
( لا تتخذوا المساجد طرقا إلا لذكر أو صلاة ) .
الحديث من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه .
أخرجه الطبراني في ( معجمه الكبير ) قال : ثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي : نا يحيى بن صالح الوحاظي : نا علي بن حوشب عن أبي قبيل عن سالم عن أبيه به .
وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات : الحوطي هذا - بفتح المهملة وسكون الواو وبعدها مهملة - من شيوخ النسائي الذين شاركه الطبراني في الرواية عنهم وهو صدوق كما في ( التقريب ) .
وعلي بن حوشب لا بأس به كما قال دحيم واعتمده الحافظ في ( التقريب ) .
وأبو قبيل - بفتح القاف - واسمه حيي بن هاني وثقه ابن معين وغيره . وبقية رجاله رجال البخاري . ولذلك قال المنذري في ( الترغيب ) :
( وإسناده لا بأس به ) . وقال الهيثمي :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) و( الأوسط ) ورجاله موثقون ) .
وللحديث طريق أخرى عن ابن عمر دون قوله : ( إلا لذكر أو صلاة ) .
أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف وهو من طريق زيد بن جبيرة الأنصاري عن داود بن الحصين عن نافع عنه بلفظ :
( خصال لا تنبغي في المسجد : لا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا يقبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه من أحد ولا يتخذ سوقا ) .
زيد بن جبيرة ضعيف كما في ( العمدة ) وفي ( التقريب ) أنه :
( متروك ) وقال ابن كثير في التفسير :
( في سنده ضعف ) .
ثم قال العيني بعد ذكر الحديث من طريق ابن ماجه :
( وما أراه يصح ) ( وعنده أيضا من حديث ابن عباس : ( نزهوا المساجد ولا تتخذوها طرقا ولا تمر فيه حائض ولا يقعد فيه جنب إلا عابري سبيل ولا ينثر فيه نبل ولا يسل فيه سيف ولا يضرب فيه حد ولا ينشد فيه شعر فإن أنشد قيل : فض الله فاك ) . ) .
قلت : وهذا لم أجده عند ابن ماجه ولم يورده النابلسي في ( الذخائر ) ولا وجدته في شيء من كتب السنة التي عندي وما أراه يصح والله أعلم .
( وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى هذا المعنى حين قال : ( سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر ) .
الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصب رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر ابن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا . . . إلخ .
أخرجه البخاري وأحمد كما سبق في الأمر السابع من الأمور التي ينبغي أن تلاحظ في بناء المساجد .
قال القرطبي في ( تفسيره ) :
( فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي إلى اتخاذ المسجد طريقا والعبور فيه واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية لأنهما كانا لا يفترقان غالبا ) .
وفي ( تفسير ابن كثير ) :
( كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وجد مندوحة عنه ) .
قلت : وقد جاء ما يدل على جواز المرور في المسجد كما يأتي في المباحات فقرة ( 1 ) فينبغي أن يحمل على أنه لحاجة وعلى الندرة بحيث أنه لا يؤدي إلى استطراقه . هذا ما ظهر لي في الجمع ولم أر أحدا تعرض لذلك . والله أعلم .
ج - المباحات :
( 1 - المرور فيه أحيانا لحاجة لقوله عليه الصلاة والسلام : ( من مر في شيء من مساجدانا أو أسواقنا ( وفي لفظ : إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا . وفي لفظ : بسوق أو مجلس أو مسجد ) ومعه نبل فليمسك على نصالها . أو قال : ( فليقبض على نصالها ثلاثا ) أن يصيب أحدا من المسلمين [ بشيء ] . ( وفي لفظ : لا يعقر بها أحدا ) .
الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والطحاوي وأحمد من طريق بريد ( بالباء الموحدة تصغير برد وهو ابن عبد الله بن أبي بردة ) عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري مرفوعا باللفظ الثاني . واللفظ الأول للبخاري وحده في رواية . واللفظ الأخير للطحاوي وللبخاري معناه . والزيادة الأخيرة للشيخين وابن ماجه .
وقد تابعه ثابت عن أبي بردة به نحوه .
أخرجه مسلم وأحمد من طريق حماد بن سلمة عنه . وفيه الزيادة الأولى واللفظ الثالث لكن ليس فيه عند مسلم : ( أو مسجد ) .
وتابعه أيضا ليث - وهو ابن أبي سليم - عند أحمد بنحوه .
ثم إن اللفظ الأخير عند أحمد أيضا من طريق أبي أحمد : ثنا بريد بن عبدالله به عن أبي موسى قال :
( إذا مر أحدكم . . . ) الحديث .
هكذا وقع في ( المسند ) موقوفا عليه وهو عند الطحاوي من هذا الوجه من طريقين عن أبي أحمد مرفوعا فلا أدري أهكذا وقعت الرواية في ( المسند ) أم سقط منه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟
والحديث دليل على جواز المرور في المسجد حتى ولو كان حاملا للسلاح وقد ترجم له البخاري بما ذكرنا فقال :
( باب المرور في المسجد ) . قال الحافظ :
( أي : جوازه وهو مستنبط من حديث الباب من جهة الأولوية ) .
قلت : لكن ينبغي أن يحمل على الحاجة والندرة بحيث لا يؤدي إلى استطراق المسجد المنهي عنه كما سبق . والله أعلم .
2 - إتيانه من النساء بشرطين :
الأول : أن يخرجن غير متطيبات ولا متبرجات بزينة لقوله عليه الصلاة والسلام :
( إذا شهدت إحداكن المسجد ( وفي لفظ : ( العشاء ) فلا تمس طيبا ) .
الحديث من رواية زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
أخرجه مسلم والنسائي وأبو عوانة وأحمد واللفظ الثاني له من طريق محمد بن عجلان : ثني بكير بن عبد الله ابن الأشج عن بسر بن سعيد عنها .
وهذا سند حسن .
وقد تابعه محمد بن عبد الله بن عمرو بن هشام عن بكر به باللفظ الثاني .
أخرجه أحمد والطيالسي وكذا النسائي وتابعه عنده الليث بن سعد باللفظ الأول .
وأخرجه مسلم من طريق مخرمة عن أبيه عن بسر بن سعيد به .
وفي الباب عن أبي هريرة وغيره كما يأتي :
( والثاني : أن يستأذن أزواجهن وعليهم الإذن لقوله صلى الله عليه وسلم :
( لا تمنعوا نساءكم المساجد [ بالليل ] إذا استأذنكم إليها [ ولكن ليخرجن تفلات ] [ وبيوتهن خير لهن ] ) .
الحديث من رواية ابن عمر رضي الله عنه عنهما .
وله عنه طرق :
1 - الزهري عن سالم بن عبد الله عنه .
أخرجه البخاري ومسلم والدارمي وأحمد من طرق عنه . واللفظ لمسلم وأحمد والزيادة الأولى للبخاري وزاد مسلم :
فقال بلال بن عبدالله : والله لنمنعهن قال : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سب مثله قط وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن ؟
وهي عند أحمد أيضا دون قوله :
( سبا . . . ) إلخ . ( 1 )
2 - مجاهد عنه بنحوه وفيه الزيادة الأولى .
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
( 1 ) وزاد في رواية : قال : وكانت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصلي في المسجد فقال لها : إنك لتعلمين ما أحب فقالت : والله لا أنتهي حتى تنهاني . قال : فطعن عمر وإنها لفي المسجد . وأخرجه في مسند عمر ( 1/40 ) من طريق يحيى بن أبي إسحاق عن سالم بن عبد الله قال : كان عمر رجلا غيورا فكان إذا خرج إلى الصلاة اتبعته عاتكة ابنة زيد فكان يكره خروجها ويكره منعها وكان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فذكر الحديث . ورجاله ثقات رجال الستة غير أنه منقطع كما في ( الفتح ) ( 2/306 ) فإن سالما لم يسمع من عمر كما قال شيخه في ( المجمع ) ( 2/33 ) .
والطيالسي وأحمد من طرق عنه . وزادوا جميعا إلا البخاري :
( فقال ابن لعبد الله بن عمر : لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا . قال : فزبره ابن عمر قال : أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : لا ندعهن ؟ ) .
وفي رواية لمسلم وأحمد :
( فلطم في صدره ) .
وزاد أحمد في رواية أخرى :
( فما كلمه عبد الله حتى مات ) .
وإسنادها صحيح .
وعنده في رواية رابعة الزيادة الثانية من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد .
وليث ضعيف لكن هذه الزيادة صحيحة لورودها في أحاديث أخرى كما يأتي .
3 - نافع عنه بلفظ :
( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) .
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد من طرق عنه . وزاد البخاري في أوله :
( كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد فقيل لها : لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار ؟ قالت : وما يمنعه أن ينهاني ؟ قال : يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكره .
4 - عبد الله بن يزيد المقرئ : ثنا سعيد بن أبي أيوب : ثنا كعب بن علقمة عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه مرفوعا بلفظ :
( لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم ) فقال بلال : والله لنمنعهن فقال له عبد الله : أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت : لنمنعهن ؟
5 - حبيب بن أبي ثابت عنه وفيه الزيادة الأخيرة وهو بلفظ :
( لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن ) .
أخرجه أبو داود والحاكم وأحمد عن يزيد بن هارون : أنا العوام بن حوشب : أخبرني حبيب به . وقال الحاكم :
( صحيح على شرطهما ) . ووافقه الذهبي وصححه ابن خزيمة أيضا كما في ( الفتح ) وكذلك صححه النووي في ( المجموع ) والعراقي في ( التقريب ) .
6 - عمرو بن دينار عنه :
( لا تمنعوا النساء أن يأتين المساجد . فقال ابنه : والله لنمنعهن فقال ابن عمر : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا ؟ ) .
أخرجه الطيالسي : ثنا هشام الدستوائي عن عمرو .
وهذا إسناد صحيح على شرط الستة .
وللحديث شواهد :
منها عن أبي هريرة مرفوعا :
( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات ) .
أخرجه أبو داود والدارمي وأحمد من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه .
وهذا سند حسن وسكت عليه المنذري في ( مختصره ) ورواه ابن خزيمة أيضا كما في ( الفتح ) وعزاه العراقي في ( التقريب ) لمسلم وهو وهم .
ومنها عن يزيد بن خالد الجهني مرفوعا مثله .
أخرجه أحمد عن عبد الرحمن بن ا سحاق عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن هشام عن بسر بن سعيد عنه . وفي ( المجمع ) :
( رواه أحمد والبزار والطبراني في ( الكبير ) وإسناده حسن ) .
كذا قال ورجال أحمد رجال مسلم غير محمد بن عبد الله بن عمرو بن هشام قال في ( الخلاصة ) :
( روى عن بكير بن الأشج وعنه إبراهيم بن سعد وثقه ابن حبان ) .
وفي ( التقريب ) :
( إنه مقبول ) .
والحديث رواه ابن حبان أيضا كما في ( الفتح ) .
ومنها عن عائشة مثله .
أخرجه أحمد : ثنا الحكم : ثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال فقال أبي يذكره عن أمه عنها به . قالت عائشة :
( ولو رأى حالهن اليوم منعهن ) .
وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير عبد الرحمن بن أبي الرجال وهو صدوق ربما أخطأ كما في ( التقريب ) .
وأم أبي الرجال اسمها عمرة بنت عبد الرحمن .
وقد رواه عنها يحيى بن سعيد مقتصرا على قول عائشة بلفظ :
( لو أدرك رسول الله ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعه نساء بني إسرائيل ) .
أخرجه مالك ومن طريقه البخاري وكذا أبو داود ورواه مسلم وأحمد من طرق عن يحيى به .
ولأبي هريرة حديث آخر في الباب بلفظ :
( أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ) .
أخرجه مسلم وأبو داود 61 من طريق بسر بن سعيد عنه .
ثم رواه هو وابن ماجه من طريق عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة قال :
لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار فقال : يا أمة الجبار جئت من المسجد ؟ قالت : نعم قال : وتطيبت : قالت : نعم قال : إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول :
( لا تقبل صلاة لامرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة ) .
وهذا سند ضعيف .
عاصم بن عبيد الله ضعيف .
وشيخه عبيد مولى أبي رهم - وهو ابن أبي عبيد - مقبول كما في ( التقريب ) .
ومن هذا الوجه أخرجه الطيالسي وأحمد ثم أخرجه من طريق زائدة عن ليث عن عبد الكريم عن مولى أبي رهم به نحوه .
وليث هو ابن أبي سليم وهو ضعيف .
وشيخه عبد الكريم هذا غير معروف كما في ( التعجيل ) .
وقد جاء من طريق أخرى خير من هذه مختصرا :
( إذا خرجت المرأة إلى المسجد فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة ) .
أخرجه النسائي من طريق إبراهيم بن سعد قال : سمعت صفوان بن سليم - ولم أسمع من صفوان غيره - يحدث عن رجل ثقة عن أبي هريرة مرفوعا به . وقال النسائي عقبه :
( مختصر ) .
ورجاله ثقات كلهم غير الرجل الذي لم يسم فإنه مجهول عندنا ولعله عبيد مولى أبي رهم المسمى في الطريق الأولى .
وفي الحديث دليل على جواز حضور النساء المساجد للصلاة بالشروط المذكورة ومع ذلك فصلاتهن في بيوتهن خير لهن كما قال عليه الصلاة والسلام في الزيادة الأخيرة وفي معناها أحاديث أخرى لعلها تأتي إن شاء الله تعالى في ( صلاة الجماعة ) .
وفي ( الفتح ) :
( قال ابن دقيق العيد : هذا الحديث عام في النساء إلا أن الفقهاء خصوه بشروط : منها أن لا تتطيب وهو في بعض الروايات : ( وليخرجن تفلات ) . قلت : هو بفتح المثناة وكسر الفاء أي : غير متطيبات ويقال : امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح . قال : ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال . وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر لأنها إذا عريت مما ذكر وكانت مستترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل وقد ورد في بعض طرق الحديث وغيره ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ) .
قلت : فذكر الزيادة الأخيرة وما في معناها مما أشرنا إليه ثم قال :
( ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة ومن ثم قالت عائشة ما قالت وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقا . وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقت على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته فقالت : لو رأى لمنع . فيقال عليه : لم ير ولم يمنع . فاستمر الحكم حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع وأيضا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى وأيضا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثن والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع التطيب والزينة وكذلك التقييد بالليل كما سبق ) .
قلت : وهذا التقييد يدل على أن الإذن إنما يؤمر به الرجال الأزواج إذا كان طلب الخروج منهن إلى المسجد ليلا وأما إن كان نهارا فلا يؤمرون به فإن شاؤوا أذنوا وإن شاؤا منعوا . قال الحافظ في ( شرح التقريب ) :
( قال ابن بطال : وفي هذه الرواية دليل على أن النهار بخلاف ذلك لنصه على الليل قال : وهذا الحديث يقضي على المطلق ألا ترى إلى قول عائشة : ما يعرفهن أحد من الغلس ) .
( وشرط ثالث : وهو أن ينصرفن إلى بيوتهن فور سلامهن مع الإمام الذي يمكث في مكانه ومن وراءه من الرجال حتى يخرجن منه ف ( إن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله [ وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل [ أن يدركهن ] الرجال ] [ فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال ) .
الحديث من رواية أم سلمة .
أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وأحمد من طرق عن ابن شهاب : أخبرتني هند بنت الحارث الفراسية أن أم سلمة أخبرتها به والسياق للبخاري والنسائي وأحمد . والزيادة الأولى لأبي داود والبيهقي وأحمد . وللبخاري نحوها وفيها زيادة :
( أن يدركهن ) .
والزيادة الأخيرة له أيضا .
قال الحافظ :
( وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور وفيه اجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالال فقط أن لا يستحب هذا المكث وعليه حمل ابن قادمة حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام . أخرجه مسلم وفيه أن النساء كن يحضرن الجماعة في المسجد ) .
( 3 - دخول الحائض لا سيما لحاجة لحديث عائشة رضي الله عنه قالت : قال لي رسول الله :
( ناوليني الخمرة من المسجد ) فقلت : إني حائض فقال :
( إن حيضتك ليست في يدك ) [ فناولتها إياه ] ) .
الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه والدارمي والطيالسي وأحمد من طريق الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد عنها . والزيادة للطيالسي وليس عنده : ( من المسجد ) .
وقد تابعه عبد الملك بن حميد بن أبي غنية عن ثابت بن عبيد به .
أخرجه أحمد .
وهذه متابعة قوية عبد الملك هذا ثقة احتج به الستة . وقد أخرجه مسلم عنه وعن حجاج معا عن ثابت .
وله طريق أخرى :
أخرجه ابن ماجه عن أبي الأحوص والطيالسي عن سلام كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الله البهي عنها به .
وهذا إسناد صحيح .
وخالفهما إسرائيل فقال : عن أبي إسحاق عن البهي عن عبد الله بن عمر عنها .
أخرجه أحمد .
وكذلك رواه شريك عن أبي إسحاق .
رواه أحمد أيضا .
وخالفهم جميعا زهير فقال : عن أبي إسحاق عن البهي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة . . . الحديث .
أخرجه أحمد .
فجعله من مسند ابن عمر لا من روايته عن عائشة وأغلب الظن أن هذا الاختلاف إنما هو من أبي إسحاق نفسه لا من الرواة عنهم فإنه كان قد اختلط في آخر عمره .
ويترجح عندي أن الصواب رواية من قال عنه عن البهي عنها . فقد تابعه إسماعيل السدي .
أخرجه الدارمي وأحمد والعباس بن ذريح عند أحمد كلاهما عن البهي عنها به
وفي رواية السدي : أنه عليه الصلاة والسلام كان في المسجد حين قال ذلك . لكن السدي هذا - وهو الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن - وإن كان ثقة ففيه كلام وفي ( التقريب ) :
( صدوق يهم ) .
فمثله إذا تفرد بزيادة دون جميع الرواة لا تطمئن النفس لثبوتها . أقول هذا وإن كانت هذه الزيادة قد صحت عن صحابي آخر وهو أبو هريرة كما يأتي إلا أنه يحتمل أن تكون هذه قصة أخرى بل هذا هو الأقرب إلى ظاهر الرواية ولفظها .
عن أبي هريرة قال :
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال :
( يا عائشة ناوليني الثوب ) فقالت : إني حائض فقال :
( إن حيضتك ليست في يدك ) . فناولته .
أخرجه مسلم والنسائي وأحمد عن يحيى بن سعيد عن يزيد ابن كيسان عن أبي حازم عنه .
ويدلك أن الواقعة متعددة أن المطلوب في هذه هو : ( الثوب ) وفي تلك : ( الخمرة ) - وهي حصير أو نسيج خوص ونحوه من النباتات كما سبق - والقول بأنها واقعة واحدة يحتاج إلى كثير من التكلف كما بينه السندي في حاشيته على مسلم :
أولا أن المطلوب في الأصل هو الخمرة والثوب معا لكن بعض الرواة اقتصر على ذكر أحدهما أو نسي . وهذا فيه توهيم الراوي ونسبته إلى القصور بدون أي دليل ولا يخفى ما فيه .
ثانيا : أن قوله : ( من المسجد ) ليس من صلب الحديث ولا من كلامه عليه الصلاة والسلام وإنما هو من قول عائشة فهو متعلق بقولها : قال . أفاده النووي في ( شرح مسلم ) نقلا عن القاضي . فأصل الحديث عندهم هكذا : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد : ( ناوليني الخمرة ) وهذا خلاف ظاهر الحديث ويبعد جدا أن يكون أصل الحديث ما ذكروا ثم يتفق جميع الرواة على روايته بصورة لا يتبادر إلى الذهن إلا أن قوله : ( من المسجد ) هو من قوله عليه الصلاة والسلام وأنه متعلق بقوله : ( من المسجد ) هو من قوله عليه الصلاة والسلام وأنه متعلق ( ناوليني ) يؤيد ما ذكرنا أن أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي ترجموا للحديث بما يدل عليه ظاهره فقالوا :
( باب الحائض تتناول الشيء من المسجد ) . وقال الترمذي :
( حديث عائشة حسن صحيح وهو قول عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك : بأن لا بأس أن تتناول الحائض شيئا من المسجد ) . وقال الخطاب في ( المعالم ) :
( وفي الحديث من الفقه أن للحائض أن تتناول الشيء بيدها من المسجد وأن من حلف لا يدخل دارا أو مسجدا فإنه لا يحنث بإدخال يده أو بعض جسده فيه ما لم يدخله جميع بدنه ) .
وكلامه هذا يشير إلى أنه فهم من الحديث أن عائشة إنما أدخلت يدها فقط إلى المسجد ولذلك استنبط منه ما ذكر من الحلف وهو فهم خفي وتقييد للحديث بما ليس فيه مما يدل عليه ولعل الخطابي ممن يرون أن ليس للحائض الدخول إلى المسجد لدليل قام عنده بذلك فقيد الحديث به . وهذا كان سائغا لو أن الدليل صح بذلك ولكنه لم يصح كما سيأتي فينبغي إبقاء الحديث على إطلاقه .
وقد جاء ما يؤيد الإطلاق والعموم فقال الإمام : ثنا سفيان عن منبوذ عن أمه قالت :
كنت عند ميمونة فأتاها ابن عباس فقالت : يا بني ما لك شعثا رأسك ؟ قال : أم عمار مرجلتي حائض . قالت : أي بني وأين الحيضة من اليد ؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض ثم تقوم إحدنا بخمرتها فتضعها في المسجد . أي بنى وأين الحيضة من اليد ؟
وأخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان به مختصرا بلفظ :
( فتبسطها وهي حائض ) . قال الشوكاني :
( ومحمد بن منصور ثقة ومنبوذ وثقه ابن معين وقد أخرجه بنحو هذا اللفظ عنها عبد الرزاق وابن أبي شيبة والضياء في ( المختارة ) .
وللحديث شواهد .
قلت : لكن أم منبوذ قال في ( التقريب ) :
( مقبولة ) .
وكذلك قال في ابنها أنه :
( مقبول ) .
فالإسناد حسن في الشواهد .
ثم قال الشوكاني :
( فهو حجة لمن قال بجواز دخول الحائض المسجد للحاجة ومؤيد لتعليق الجار والمجرور في الحديث الأول بقوله : ( ناوليني ) لأن دخولها المسجد لوضع الخمرة فيه لا فرق بينه وبين دخولها لإخراجها ) .
ومن شواهد الحديث التي أشار إليها الشوكاني فيما سبق :
عن ابن عمر :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة :
( ناوليني الخمرة من المسجد ) قالت : إنها حائض قال :
( إنها ليست في كفك ) .
أخرجه أحمد من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عنه .
ورجاله رجال الشيخين غير ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ .
وقد خالفه عبيد الله بن عمر فرواه موقوفا على ابن عمر .
( إنه كان يأمر جاريته أن تناوله الخمرة من المسجد فتقول : إني حائض . فيقول : إن حيضتك ليست في كفك . فتناوله ) .
هكذا أخرجه الدارمي : أخبرنا محمد بن عيينة عن علي بن مسهر عنه .
وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن عيينة وقد وثقه ابن حبان وروى عنه جماعة من الثقات . لكن الحديث وإن كان موقوفا فإنه من حيث المعنى مرفوع لأنه لا ينطبق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .
ومنها عن أبي بكرة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخادمه :
( ناوليني الخمرة من المسجد ) فقالت : إني حائض فقال :
( ناوليني ) . قال في ( المجمع ) :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) ورجاله موثقون ) .
ومنها عن أم أيمن قالت :
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( ناوليني الخمرة من المسجد ) . قلت : إني حائض قال :
( إن حيضتك ليست في يدك ) . قال الهيثمي :
( رواه الطبراني في ( الكبير ) وفيه أبو نعيم عن صالح بن رستم فإن كان هو أبو نعيم الفضل بن دكين فرجاله ثقات كلهم وإن كان ضرار بن صرد فهو ضعيف ) .
وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود من طريق الأفلت بن خليفة قال : ثتني جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة رضي الله عنه تقول :
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال : ( وجهوا هذه البيوت عن المسجد ) ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل فيهم رخصة فخرج إليهم بعد فقال :
( وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) 62 .
فهو حديث مختلف فيه ولا يصح لاضطرابه ولتفرد جسرة بنت دجاجة به وهي ليست بالمشهورة فرواه أفلت عنها هكذا .
ورواه محدوج الذهلي عنها قالت : أخبرتني أم سلمة به مختصرا بلفظ :
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته :
( إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض ) .
أخرجه ابن ماجه وابن أبي حاتم في ( العلل ) كلاهما من طريق أبي نعيم : ثنا ابن أبي غنية عن أبي الخطاب الهجري عن محدوج به . وزاد في ( العلل ) : ( إلا للنبي ولأزواجه وعلي وفاطمة بنت محمد ) . قال في ( الزوائد ) :
( إسناد ضعيف : محدوج لم يوثق وأبو الخطاب مجهول ) .
وكذلك قال ابن حزم في أبي الخطاب وقال في ( محدوج ) أنه :
( ساقط يروي المعضلات عن جسرة ) . ثم قال ابن أبي حاتم :
( قال أبو زرعة : يقولون : عن جسرة عن أم سلمة . والصحيح عن عائشة ) .
وفيه إشارة إلى أن محدوجا لم ينفرد به وهو كذلك فقد قال ابن حزم :
( رويناه عن عبد الوهاب عن عطاء الخفاف عن ابن أبي غنية عن إسماعيل عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة به وفيه الزيادة ) . ثم رده ابن حزم بقوله :
( عطاء الخفاف هو عطاء بن مسلم : منكر الحديث وإسماعيل مجهول ) .
قلت : كذا في ( المحلى ) :
( عبد الوهاب عن عطاء الخفاف ) . وعلى هامشه :
( في اليمنية : عبد الوهاب بن عطاء الخفاف وهو خطأ ) .
قلت : وما في النسخة اليمنية هو الموافق لما نقله ابن القيم في ( تهذيب السنن ) عن ابن حزم ولتعقبه عليه من حيث قال :
( ثم رواه ( يعني ابن حزم ) من طريق عبد الوهاب بن عطاء الخفاف . . . قال ابن حزم : عبد الوهاب بن عطاء منكر الحديث وإسماعيل مجهول . وليس الأمر كما قال أبو محمد ( يعني ابن حزم ) فقد قال ابن معين : إنه ثقة . . . وقال صالح بن محمد : أنكروا على الخفاف حديثا رواه لثور بن يزيد عن مكحول عن كريب عن ابن عباس في فضل العباس وما أنكروا عليه غيره . . . وأما إسماعيل فإن كان إسماعيل بن رجايء بن رشد الزبيدي فإنه ذكر في ترجمة ابن أبي عتبة ( كذا ولعل الأصل : غنية كما في ( المحلى ) وإن كان وقع في نقل أبن القيم أيضا عنه عتبة كما هنا والله أعلم ) أنه روى عن إسماعيل هذا ولم يذكر في شيوخه إسماعيل غيره فهو ثقة روى له مسلم في ( الصحيح ) . وبعد فهذا الاستثناء ( يعني الزيادة المتقدمة ) باطل موضوع من زيادة بعض غلاة الشيعة ولم يخرجه ابن ماجه في الحديث ) .
والخلاصة أن ابن حزم إنما ألان القول في ( عطاء بن مسلم الخفاف ) كما صريح كلامه المذكور آنفا وابن القيم ظن أنه إنما عنى به ولده عبد الوهاب بن عطاء فشرع في الرد على ابن حزم ونقل أقوال الأئمة في الثناء عليه وهو بلا شك أحسن حالا من أبيه عطاء كما يتبين ذلك بمراجعة أقوال الأئمة فيهما . وفي ( التقريب ) :
( عبد الوهاب بن عطاء الخفاف صدوق ربما أخطأ ) وقال في ترجمة والده عطاء :
( صدوق يخطيء كثيرا ) .
لكن لم يتبين لي هل راوي الحديث عن ابن أبي غنية هو الوالد أو الولد نظرا لاختلاف النسخ كما سبق وإن كان المعلق على ( المحلى ) وهو القاضي أحمد محمد شاكر جزم بالأول وخطأ النسخة المخالفة ولعل حجته في ذلك كلام ابن حزم على عطاء دون عبد الوهاب وعليه يرد هذا السؤال : من يكون عبد الوهاب هذا ؟ فإن قيل : إنه ابن عطاء المذكور قلنا بأنا لم نجد من ذكره في الرواة عن أبيه وإن كان غيره فلم أعرفه . والله أعلم .
وعلى كل حال فمدار هذا الحديث على جسرة كما في الذين قبله وهي ليست مشهورة بالثقة والعدالة بحيث تطمئن النفس بالاحتجاج بخبرها استقلالا ولم يوثقها أحد من المتقدمين ممن توثيقهم حجة بل قد غمزها البخاري كما يأتي ولذلك ضعف حديثها جماعة من المحدثين أشار إليهم الخطابي في ( المعالم ) وقال أبو محمد عبد الحق :
( لا يثبت من قبل إسناده ) .
وتعقبه ابن القطان بما لا يكفي ولا يشفي حيث قال : كما في ( نصب الراية ) :
( وجسرة بنت دجاجة تابعية وقول البخاري في ( تاريخه الكبير ) :
( عندها عجائب ) لا يكفي في إسقاط ما روت روى عنها أفلت وقدامة بن عبد بن عبده العامري ) .
قلت : فكان ماذا ؟ وقدامة هذا ليس بالمشهور أيضا وفي ( التقريب ) :
( قيل هو فليت العامري مقبول ) .
وذكر في ( التهذيب ) في الرواة عنه : محدوجا وهو مجهول كما سبق وعمر بن عمير بن محدوج ولم أجد له ترجمة .
وبالجملة فكل من روى عن جسرة غير معروف بالعدالة - حاشا أفلت - فيكف تجعل روايته عنها توثيقا لها . نعم قد صرح بتوثيقها العجلي وابن حبان حيث ذكرها في ( الثقات ) وتساهله في التوثيق وكذا العجلي معروف لدى من يتبع كلامهما في الرواة المختلف فيهم . ولذلك ترى الحافظ لم يعتمد على توثيقهما بالرغم من نقله ذلك عنهما في ( التهذيب ) فقال في ( التقريب ) :
( إنها مقبولة ) .
يعني أن حديثها ضعيف إذا تفردت كما ذكر في المقدمة وهو قوله :
( السادسة : من ليس له من الحديث إلا القليل ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله وإليه الإشارة بلفظ : ( مقبول ) حيث يتابع وإلا فلين الحديث ) .
ومما سبق بيانه تعلم أن قول الشوكاني أن الحديث صحيح تبعا لابن خزيمة غير صحيح وقوله :
( قال ابن سيد الناس : ولعمري إن التحسين لأقل مراتبه لثقة رواته ووجود الشواهد له من خارج ) .
ففيه نظر أيضا لأن هذه الشواهد كلا شواهد لأن مدارها على جسرة كما سبق فلم يردالحديث من غير طريقها من وجه مقبول وإلا لذهبنا إليه .
نعم رواه ابن حزم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أذن لأحد أن يجلس في المسجد ولا يمر فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب .
ثم قال :
( ومحمد بن الحسن مذكور بالكذب وكثير بن زيد مثله ) .
كذا قال وكثير بن زيد هو الأسلمي السهمي ولم ينحط إلى هذه المنزلة ولم يتهم بالكذب وإنما هو مختلف فيه وثقه بعضهم وضعفه آخرون وفي ( التقريب ) :
( صدوق يخطئ ) .
وقال في ابن زبالة :
( كذبوه ) .
فهو علة الحديث .
والمطلب بن عبد الله هو المخزومي وهو كثير التدليس والإرسال كما قال الحافظ فالحديث مرسل أيضا .
وأخرجه الترمذي والبزار أيضا كما في ( تخريج الكشاف ) من طريق سالم بن أبي حفصة عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا :
( يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك ) . وقال :
( حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث فاستغربه ) .
قلت : وهذا سند ضعيف لأن عطية هو العوفي ضعيف .
وسالم بن أبي حفصة صدوق في الحديث إلا أنه شيعي غال كما في ( التقريب ) وقال البزار :
( كان شيعيا لكنه لم يترك ولم يتابع على هذا ) 63 .
ثم رواه البزار من رواية الحسن بن زياد عن خارجة بن سعد عن أبيه سعد مثله سواء . وقال :
( لا نعلمه عن سعد إلا بهذا الإسناد ) .
قلت : والحسن بن زياد هو اللؤلؤي تلميذ أبي حنيفة وقد كذبه جماعة الأئمة كابن معين وغيره .
فتبين مما تقدم أنه لا يثبت أي حديث في تحريم دخول الحائض وكذا الجنب إلى المسجد والأصل الجواز فلا ينقل عنه إلا بناقل صحيح تقوم به الحجة لا سيما وقد صح ما يؤيد هذا الأصل وهو قوله عليه الصلاة والسلام المذكور في الاصل : ( ناوليني الخمرة من المسجد ) وغيره مما يأتي :
قال ابن حزم :
( وجائز للحائض والنفساء أن يتزوجا وأن يدخلا المسجد وكذلك الجنب لأنه لم يأتي نهي عن شيء من ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن لا ينجس ) وقد كان أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جماعة كثيرة ولا شك في أن فيهم من يحتلم فما نهوا قط عن ذلك .
وقال قوم : لا يدخل المسجد الجنب والحائض إلا مجتازين . هذا قول الشافعي وذكروا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء/43 ] فادعوا أن زيد بن أسلم أو غيره قال : معناه : لا تقربوا مواضع الصلاة .
قال ابن حزم : ولا حجة في قول زيد ولو صح أنه قاله لكان خطأ منه لأنه لا يجوز أن يظن أن الله تعالى أراد أن يقول : لا تقربوا مواضع الصلاة . فيلبس علينا قوله فيقول : { لا تقربوا الصلاة } وروي أن الآية في الصلاة نفسها عن علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة .
وقال مالك : لا يمر فيه أصلا .
وقال أبو حنيفة وسفيان : لا يمرا فيه فإن اضطرا إلى ذلك تيمما ثم مرا فيه واحتج من منع ذلك بحديث . . . ) .
قلت : فساق حديث عائشة وأم سلمة والمطلب بن عبد الله المتقدم آنفا وقال :
( وهذا كله باطل ) .
ثم بين عللها بنحو ما سبق ثم ما روى من طريق البخاري بسنده عن عائشة أم المؤمنين :
أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب فأعتقوها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت فكان لها خباء في المسجد أو حفش . قال ابن حزم :
( فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمعهود من النساء الحيض فما منعها عليه الصلاة والسلام من ذلك ولا نهى عنه وكل ما لم ينه عليه الصلاة والسلام عنه فمباح ) . قال :
( ولو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه الصلاة والسلام عائشة إذ حاضت فلم ينهها إلا عن الطواف بالبيت فقط ومن الباطل المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه الصلاة والسلام عن ذلك ويقتصر على منعها من الطواف . وهذا قول المزني وداود وغيرهما ) .
وفي ( تفسير القرطبي ) :
( ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن ليس بنجس ) قال ابن المنذر : وبه نقول ) .
قلت : وتوسط بعضهم فقال بجواز الدخول إذا توضأ ففي ( تفسير العماد ابن كثير ) :
( وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد لما روى هو وسعيد بن منصور في ( سننه ) بسند صحيح : أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك . قال سعيد بن منصور : ثنا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة . وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم . والله أعلم ) .
قلت : ورواه الدارمي من حديث جابر بلفظ :
( كنا نمشي في المسجد ونحن جنب لا نرى بذلك بأسا ) .
أخرجه من طريق ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عنه .
ورجاله ثقات . لكن ابن أبي ليلى سيء الحفظ .
وأبو الزبير مدلس وقد عنعنه .
وقد رواه عنه هشيم أيضا بنحوه .
أخرجه البيهقي .
ولعل الوضوء مستحب لعمل الصحابة . والله أعلم .
وبالجملة فلا دليل على تحريم دخول الحائض وكذا الجنب المسجد والأصل الجواز وقد اقترن به ما يؤيده كما سبق . والله تعالى ولي التوفيق .
( 4 - الدخول بالسلاح غير مسلول ف ( إنه عليه الصلاة والسلام أمر رجلا كان يتصدق بالنبل في المسجد أن لا يمر إلا وهو أخذ بنصولها [ كي لا يخدش مسلما ] ) .
الحديث من رواية جابر بن عبد الله الأنصاري .
وله عنه طريقان :
1 - الليث بن سعد عن أبي الزبير عنه والسياق له .
أخرجه مسلم وأبو داود والطحاوي وأحمد من طرق عنه .
2 - سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عنه مختصرا نحوه دون ذكر التصدق .
أخرجه البخاري ومسلم أيضا والنسائي والدارمي وابن ماجه وأحمد أيضا وإسناده ثلاثي .
وقد تابعه حماد بن زيد عن عمرو وفيه الزيادة .
أخرجه الشيخان لكن البخاري ليس عنده : ( كي ) .
وللحديث شاهد صحيح من رواية أبي موسى الأشعري وقد سبق في الفقرة الأولى من هذا الفصل .
وله شاهد آخر أخرجه الطبراني في ( الأوسط ) عن محمد بن عبيدالله قال : كنا عند أبي سعيد الخدري في المسجد فقلب رجل نبلا فقال أبو سعيد : أما كان هذا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تقليب السلاح في المسجد . قال الهيثمي :
( وفيه أبو البلاد ضعفه أبو حاتم ) . قال الحافظ :
( وفي الحديث إشارة إلى تعظيم قليل الدم وكثيره وتأكيد حرمة المسلم وجواز إدخال المسجد السلاح ) .
ونحوه في ( العمدة ) .
( 5 - إدخال الصبيان وفيه أحاديث :
( أ ) قال أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه :
بينا نحن في المسجد جلوس [ إذ ] خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع - وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهي صبية يحملها [ على عاتقه ] فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على عاتقه يضعها إذا ركع ويعيدها [ على عاتقه ] إذا قام [ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على عاتقه ] حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها ) وقد مضى مختصرا في ( طهارة الثوب ) المسألة الرابعة ) .
الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والزيادة الأولى له وأحمد عن الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن عمرو بن سليم الزرقي عنه .
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين . وقد أخرجاه عن سعيد بن أبي سعيد عن عمرو بن سليم الزرقي عنه .
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين . وقد أخرجاه وغيرهما من طرق عن عمرو به مختصرا وقد سبق تخريجه في المكان المشار إليه في الأصل والزيادة الثانية لأبي داود وأحمد ولهذا وحده الثالثة والرابعة .
والحديث ترجم له النسائي بما ترجمنا له فقال :
( إدخال الصبيان المساجد ) .
وقد أشار إلى ذلك الحافظ في ( الفتح ) فقال :
( واستدل به على جواز إدخال الصبيان المساجد ) . وقال بدر الدين العيني في ( العمدة ) :
( ومن فوائد هذا الحديث جواز إدخال الصغار المساجد ) .
( ب ) : قال أبو بكرة الثقفي :
كان عليه الصلاة والسلام يصلي [ بالناس ] فإذا سجد وثب الحسن على ظهره وعلى عنقه فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعا رفيقا لئلا يصرع فعل ذلك غير مرة فلما قضى صلاته [ ضمه إليه وقبله ف ] قالوا : يا رسول الله رأيناك صنعت بالحسن شيئا ما رأيناك صنعته [ بأحد ] ؟ قال : إنه ريحانتي من الدنيا وإن ابني هذا سيد وعسى الله تبارك وتعالى أن يصلح به بين فئتين [ عظيمتين ] من المسلمين ) .
الحديث أخرجه أحمد : ثنا عفان : ثنا مبارك بن فضالة عن الحسن : أخبرني أبو بكرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان . . . إلخ .
ثم أخرجه في موضع : ثنا هاشم : ثنا المبارك : ثنا الحسن : ثنا أبو بكرة به نحوه . وفيه الزيادة الأولى والثالثة .
وأخرجه الطيالسي : ثنا ابن فضالة به نحوه . وفيه الزيادة الثانية .
وهذا إسناد جيد متصل بالسماع .
ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي أخرجه البيهقي في ( الدلائل ) وفيه الزيادة الأخيرة كما في ( الفتح ) .
وقد ورد الحديث من طرق أخرى مختصرا عن الحسن البصري :
1 - إسرائيل أبو موسى قال : سمعت الحسن يقول : لقد سمعت أبا بكرة يقول :
رأيت رسول الله على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو مقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : إن ابني هذا سيد ولعل الله . . . . الحديث .
أخرجه البخاري والنسائي وعندهما الزيادة الأخيرة وأحمد .
2 - محمد بن عبد الله الأنصارى : ثنا الأشعث بن عبد الملك عن الحسن عن أبي بكرة قال :
صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال . . . الحديث . وفيه الزيادة المشار إليها آنفا .
أخرجه أبو داود والترمذي وقال :
( حديث حسن صحيح ) .
3 - حماد بن زيد عن علي بن زيد عن الحسن عن أبي بكرة قال :
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ جاء الحسن بن علي فصعد إليه المنبر فضمه النبي صلى الله عليه وسلم إليه ومسح على رأسه وقال : . . . الحديث . وفيه الزيادة .
أخرجه أبو داود وأحمد .
وعلي بن زيد هو ابن جدعان وفيه ضعف .
وقد أخرجه الحاكم في ( المستدرك ) من الوجهين الأخيرين وسكت عليهما .
وإسناد الأول منهما صحيح .
وللحسن رضي الله عنه قصتان أخريان إحداهما في ركوبه على ظهره عليه الصلاة والسلام وهو ساجد وإطالته السجود من أجله وقوله لما سئل عن ذلك : ( إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ) ولعلها تأتي في ( السجود ) إن شاء الله تعالى .
والأخرى في نزوله عليه الصلاة والسلام من المنبر حين رأى الحسن وأخاه الحسين يعثران في قميصهما . وعسى أن تأتي في الخطبة يوم الجمعة .
( ج ) قال أنس :
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة ) .
أخرجه مسلم والدارقطني والبيهقي وأحمد من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عنه .
وأكد ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله :
( د ) : قال صلى الله عليه وسلم :
( إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به ) .
هذا من حديث أنس أيضا .
أخرجه البخاري ومسلم أيضا وابن ماجه والبيهقي أيضا وأحمد من طرق عن سعيد بن أبي عروبة قال : ثنا قتادة عنه به .
وله شاهد من حديث أبي قتادة في البخاري وغيره ولعله يأتي .
قال الحافظ :
( واستدل بهذا الحديث ( يعني : حديث أبي قتادة ) على جواز إدخال الصبيان المساجد وفيه نظر لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفا في بيت يقرب من المسجد بحيث يسمع بكاؤه ) .
قلت : هذا الاحتمال بعيد لا سيما وفي حديث أنس الأول : ( يسمع بكاء الصبي مع أمه ) فإن ظاهره - بل هو نص على - أن الصبي كان يكون مع أمه في المسجد . فبطل الاحتمال المذكور .
وفي هذه الأحاديث جواز إدخال الصبيان المساجد ولو كانوا صغارا يتعثرون في سيرهم حتى ولو كان من المحتمل الصياح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك ولم ينكره بل شرع للأئمة تخفيف القراءة لصياح صبي خشية أن يشق على أهله .
ولعل من الحكمة في ذلك تعويدهم على الطاعة وحضور الجماعة منذ نعومة أظفارهم فإن لتلك المشاهد التي يرونها في المساجد وما يسمعونه - من الذكر وقراءة القرآن والتكبير والتحميد والتسبيح - أثرا قويا في نفوسهم - من حيث لا يشعرون - لا يزول أو من الصعب أن يزول حين بلوغهم الرشد ودخولهم معترك الحياة وزخارفها ومن هذا القبيل الأذان في أذن المولود قال المحقق ابن القيم في ( تحفة المولود ) :
( وسر التأذين - والله أعلم - أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المنتظمة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام فكان ذلك كالتلقين له بشعائر الإسلام عند دخوله إلى الدنيا كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر . . . إلخ ) .
ولعل علم النفس الحديث يؤيد تأثر الطفل الصغير ولو في المهد بما يسمع ويرى . ويخيل إلي أنني كنت قرأت بحثا مفيدا حول هذا الموضوع لبعض الكتاب ولكني الآن لا استذكر من هو ولا في أي كتاب هو .
وأما كبار الأطفال فتأثرهم بذلك واضح مسلم غير أنه إذا وجد فيهم من يلعب في المساجد ويركض فعلى آبائهم وأولياء أمرهم تأديبهم وتربيتهم أو على القيم والخادم أن يطردهم وعلى هذا عمل ما ذكره الحافظ ابن كثير :
( وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبيانا يلعبون في المسجد ضربهم بالمخففة - وهي الدرة - وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيها أحدا ) .
وأما حديث : ( جنبوا مساجدكم صبيانكم ) فهو ضعيف عند ابن حجر وابن كثير وغيرهما فلا يقاوم الأحاديث المتقدمة وقد سبق تخريجه في الكلام عليه تحت الفقرة ألأولى من ( آداب المساجد ) .
( 6 - إدخال الميت للصلاة عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( [ ما ] صلى على سهيل ابن بيضاء ( وفي لفظ : ابني بيضاء : سهيل وأخيه ) [ إلا ] في [ جوف ] المسجد ) ] .
الحديث من رواية عائشة رضي الله عنها .
وله طريقان :
1 - عباد بن عبد الله بن الزبير عنها .
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والطحاوي وأحمد من طرق عنه وفي الزيادة الأولى والثانية عند الجميع إلا الترمذي .
وعند مسلم وأحمد زيادة تبين سبب رواية عائشة للحديث وهي :
( أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها فقالت : ما أسرع ما نسي الناس ؟ ما صلى . . . . ) إلخ .
وكذلك رواه الطحاوي وزاد فيه أحمد :
( فمر به عليها ) وفي لفظ :
( فشق به في المسجد فدعت له ) .
وفي رواية له وكذا مسلم - والسياق له - :
عن عائشة :
أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه - أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد - فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا : ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد فبلغ ذلك عائشة فقالت :
ما أسرع الناس إلا أن يعيبوا ما لا علم لهم به ؟ عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . .
أخرجاه من طريق موسى بن عقبة عن عبد الواحد بن حمزة عن عباد . وفيه عند مسلم الزيادة الأخيرة وهي عند النسائي أيضا من هذا الوجه .
2 - الضحاك بن عثمان عن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عنها به باللفظ الثاني .
أخرجه مسلم وأبو داود ولفظه عند الأول :
( لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت : ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأنكر ذلك عليها فقالت : والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . ) إلخ .
وهو عند الطحاوي بتمامه إلا أن المرفوع منه عنده باللفظ الأول .
وكذلك رواه مالك في ( الموطأ ) عن أبي النضر عن عائشة فأسقط من الإسناد أبا سلمة . قال ابن عبد البر :
( هكذا هو في ( الموطأ ) عند الجمهور والرواة منقطعا ورواه حماد بن خالد الخياط عن مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة فانفرد بذلك عن مالك ) .
ثم روى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال :
صلي على عمر بن الخطاب في المسجد .
قلت : وإسناده صحيح كالشمس .
وعن عروة قال :
صلي على أبي بكر في المسجد .
أخرجه والذي قبله سعيد بن منصور كما في ( المنتقى ) .
وقال الحافظ في ( التلخيص ) :
( وقد ثبت أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد وصهيبا صلى على عمر في المسجد وهو في ( الموطأ ) وغيره ) .
قلت : فليس في ( الموطأ ) إلا الصلاة على عمر وقد أورده الشوكاني في ( النيل ) بلفظ ( التلخيص ) وقال :
( رواه ابن أبي شيبة ) ثم قال الشوكاني :
( والحديث يدل على جواز إدخال الميت إلى المسجد والصلاة عليه فيه وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور قال ابن عبد البر : ورواه المدنيون في رواية عن مالك وبه قال ابن حبيب المالكي وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة ومالك في المشهور عنه والهادوية وكل من قال بنجاسة الميت وأجابوا عن حديث الباب بأنه محمول على أن الصلاة على ابني بيضاء وهما كانا خارج المسجد والمصلون داخله وذلك جائز بالاتفاق ورد بأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بإدخال الجنازة المسجد وأجابوا ايضا بأن الأمر استقر على ترك ذلك لأن الذين أنكروا على عائشة كانوا من الصحابة . ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها فدل على أنها حفظت ما نسوه وأن الأمر استقر على الجواز . ويدل على ذلك الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد كما تقدم . وأيضا العلة التي لأجلها كرهوا الصلاة على الميت في المسجد هي زعمهم أنه نجس وهي باطلة لما تقدم أن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا . وأنهض ما استدلوا به على الكراهة ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له ) . وأخرجه ابن ماجه ولفظه : ( . . . فليس له شيء ) . وفي إسناده صالح مولى التوأمة وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة قال النووي : وأجابوا عنه - يعني الجمهور - بأجوبة :
أحدها : أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به قال أحمد : هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف .
والثاني : أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من ( سنن أبي داود ) : ( من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه ) فلا حجة لهم حينئذ .
والثالث : أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه : ( لا شيء له ) لوجب تأويله بأن ( له ) بمعنى : عليه ليجمع بين الروايتين قال : وقد جاء بمعنى عليه كقوله تعالى : { وإن أسأتم فلها } [ الإسراء/7 ] .
الرابع : أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه . انتهى ) .
قلت : والراجح عندي في حديث أبي هريرة من حيث النقل رواية من قال : ( فليس له شيء ) أو ( فلا شيء له ) لأنه كذلك عند جميع من أخرج الحديث ممن وقفنا عليه حاشا أبا داود فإنه أخرجه من طريق يحيى ابن سعيد عن ابن أبي ذئب : ثني صالح مولى التوأمة عنه بلفظ :
( فلا شيء عليه ) .
وخالفه وكيع عند ابن ماجه وأحمد وحجاج ويزيد بن هارون عند أحمد وأسد ومعن بن عيسى عند الطحاوي كلهم عن ابن أبي ئب بلفظ :
( فلا شيء له ) . إلا الأول منهم فقال :
( فليس له شيء ) .
والمعنى واحد .
ولا يطمئن قلبي لشيء من الأجوبة التي ذكرها النووي إلا الجواب الأول وهو أن الحديث ضعيف فلا حجة فيه . غير أن ما حكاه النووي من تضعيفه لا يكفي في الإقناع به فقد قال النووي نفسه في ( شرح المهذب ) :
( إنه ضعيف باتفاق الحفاظ وممن نص على ضعفه الإمام أحمد بن حنبل وابو بكر بن المنذر والبيهقي وآخرون وقال أحمد : هذا الحديث مما انفرد به صالح مولى التوأمة . وهو مختلف في عدالته لكن معظم ما عابوا عليه الاختلاط قالوا : وسماع ابن أبي ذئب ونحوه منه قبل الاختلاط وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه ) .
قلت : وفي ( التقريب ) :
( صدوق اختلط بآخره قال ابن عدي : لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج ) .
قلت : فإذا كان ابن أبي ذئب روى عنه قبل الاختلاط وهذا الحديث من روايته عنه فكيف إذن يكون حديثه هذا ضعيفا . ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في ( الزاد ) بعد أن نقل أقوال الأئمة فيه التي تدور حول ما أفاده ابن عدي :
( وهذا الحديث حسن فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وسماعه منه قديم قبل اختلاطه فلا يكون اختلاطه موجبا لرد ما حدث به قبل الاختلاط ) .
قلت : وهذا هو الحق لو أن ابن أبي ذئب لم يسمع منه بعد ذلك وليس كذلك فقد ( قال الترمذي عن البخاري عن أحمد ن حنبل قال : سمع ابن أبي ذئب من صالح أخيرا وروى عنه منكرا ) . حكاه ابن القطان عن الترمذي هكذا .
قلت : وفي هذا بيان لسبب تضعيف أحمد للحديث وهو أنه روى ابن أبي ذئب عنه بعد الاختلاط أيضا ولعله عمدة ابن حبان في قوله في ( كتاب الضعفاء ) :
( اختلط بآخره ولم يتميز حديث حديثه من قديمه فاستحق الترك ) . ثم ذكر له هذا الحديث وقال :
( إنه باطل وكيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد ) .
فتبين بهذا علة الحديث وأنه ضعيف فلا يقاوم حديث عائشة الصحيح .
فالحق أن إدخال الجنازة إلى المسجد والصلاة فيه جائز بدون كراهة لكن لم يكن ذلك من عادته عليه الصلاة والسلام بل الغالب عليه الصلاة عليها خارج المسجد فهو أولى كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في ( الجنائز ) .
( 7 - إدخال المشرك لحاجة وفيه أحاديث :
( أ ) قال أبو هريرة :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال [ سيد أهل اليمامة ] فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال [ له ] : ( ماذا عندك يا ثمامة ؟ ) فقال : عندي يا محمد خير : إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل [ تعط ] منه ما شئت . فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد فقال : ( ما عندك يا ثمامة ؟ ) قال : ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل [ تعط ] منه ما شئت . فتركه [ رسول الله ] حتى كان من ( وفي لفظ : ( بعد ) الغد فقال : ( ما عندك يا ثمامة ؟ ) فقال : عندي ما قلت لك [ إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ] فقال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] : ( أطلقوا ثمامة ) . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ( وفي لفظ يارسول الله ) يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه [ كلها ] إلي والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين [ كله ] إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد [ كلها ] إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
الحديث أخرجه البخاري ومسلم - والسياق له - وأبو داود والبيهقي ولكنهما لم يسوقاه بتمامه وأحمد عن الليث بن سعد قال : ثني سعيد أنه سمع أبا هريرة به . والزيادات كلها لمسلم وأحمد إلا الثانية فهي لأحمد وحده . واللفظ الثاني والثالث له وللبخاري أيضا .
وقد تابعه عند مسلم عبد الحميد بن جعفر : ثني سعيد بن أبي سعيد به مثله .
وقد تابعه ابن عجلان عن سعيد به نحوه وزاد في آخره :
( قال عمر : لقد كان والله في عيني أصغر من الخنزير وإنه في عيني أعظم من الجبل خلي عنه فأتى اليمامة حبس عنهم فضجوا وضجروا فكتبوا : تأمر بالصلة . قال : وكتب إليه ) .
هكذا أخرجه أحمد .
وإسناده حسن .
ثم أخرجه مختصرا من طريق عبد الله بن عمر عن سعيد المقبري به :
أن ثمامة بن أثال الحنفي أسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينطلق به إلى حائط أبي طلحة فيغتسل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( قد حسن إسلام صاحبكم ) .
وهذا سند ضعيف لأن عبد الله بن عمر هذا - وهو العمري المكبر - سيئ الحفظ وقد أتى بما تفرد دون الثقات في هذا الحديث .
( ب ) قال جبير بن مطعم :
أتيت المدينة في فداء بدر ( وفي رواية : فداء المشركين ) قال : وهو يومئذ مشرك قال : فدخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة المغرب فقرأ فيها ب { الطور } [ فلما بلغ هذه الآية : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون . أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون . [ أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين } [ الطور/38 ] ] كاد قلبي أن يطير ] ( وفي الرواية الأولى : فكأنما صدع قلبي لقراءة القرآن ) .
الحديث أخرجه الطيالسي وعنه البيهقي والسياق له - وأحمد - والرواية الثانية له - من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم قال : ثني بعض إخوتي عن أبي جبير بن مطعم به .
وكذلك أخرجه الطحاوي عن وهب بن جرير والخطيب في ( تاريخه ) عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي كلاهما عن شعبة به وقال الحضرمي : عن سعد بن إبراهيم عن أخيه . وليس عندهما ذكر المسجد . ثم قال الخطيب :
( تابعه غندر وغيره عن شعبة ورواه أبو عمر الحوضي عن شعبة عن سعد ابن إبراهيم عن بعض إخوته عن جبير بن مطعم . وخالفه أبو الوليد الطيالسي فرواه عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن جبير بن مطعم وحديث يعقوب الحضرمي ومن تابعه الصواب ) .
قلت : وهذا إسناد صحيح إن شاء الله رجاله كلهم ثقات رجال الستة وأخو سعد بن إبراهيم هو يعقوب بن إبراهيم فإنه هو المعروف برواية أخيه سعد عنه .
وقد أخرجه البخاري من طريق سفيان بن عيينة قال : حدثوني عن الزهري عن محمد بن جبير به نحوه ببعض اختصار وفيه الزيادة الأولى .
وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن الصباح : أنبأنا سفيان عن الزهري به وفيه الزيادة الأخرى .
هكذا رواه ابن الصباح عن سفيان عن الزهري بدون واسطة ولعل الصواب الرواية الأولى لكن الحافظ لم يذكر ولم يسم هؤلاء الذين حدثوا ابن عيينة به وكأنه لم يقف على ذلك .
وقد أخرجه البخاري أيضا في ( أفعال العباد ) من طريق محمد ابن إسحاق عن الزهري به بلفظ :
قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء سبايا فنمت في مسجد بعد العصر وأنا على شركي فوالله ما أنبهني إلا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغرب ب { الطور . وكتاب مسطور } .
ورجاله ثقات كلهم رجال مسلم غير محمد بن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس وقد عنعنه .
وهو في ( الصحيحين ) و( الموطأ ) و( سنن ) أبي داود والنسائي و( المسندين ) أيضا من طرق عن الزهري مختصرا بلفظ :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ب { الطور } في المغرب .
وقد وجدت للحديث طريقا ثالثا أخرجه الطبراني في ( معجمه الكبير ) فقال : ثنا أحمد بن زهير التستري وعبد الله بن محمد بن شعيب الرجافي قالا : ثنا محمد بن عمر البحراني : أنا أبو عامر العقدي : أنا أبو عمرو السدوسي عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أخبرني عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير عن جبير بن مطعم قال :
قدمت المدينة إذا قدمتها وأنا غير مسلم يومئذ وقد أصابني كرى شديد قدمت في المسجد حتى فزعت بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمغرب وهو يقرأ في { الطور . وكتاب مسطور } فاسترجعت حتى خرجت من المسجد وكان أول ما دخل قلبي الإسلام .
وهذا سند صحيح رجال كلهم ثقات رجال مسلم عدا شيخي الطبراني ولم أجد من ترجمهما .
وأبو عمر السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام العدوي .
وفي الباب عن أبي هريرة قال :
اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا : يا أبا القاسم في رجل وامرأة زنيا منهم .
أخرجه أبو داود ومن طريقه البيهقي عن معمر عن الزهري : ثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب عنه . قال المنذري :
( رجل من مزينة مجهول ) .
قلت : ثم أخرجه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق ويونس عن الزهري : سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه . به أتم منه .
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي : أن وفد ثقيف قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا ولا يستعمل عليهم من غيرهم فقال :
( لا تحشروا ولا تعشروا ولا تجبوا ولا يستعمل عليكم من غيركم ولا خير في دين ليس فيه ركوع ) .
أخرجه الطيالسي ومن طريقه أبو داود والبيهقي وأحمد من حديث حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عنه .
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم فهو صحيح إن كان الحسن سمعه من عثمان . ثم قال البيهقي :
( ورواه أشعث عن الحسن مرسلا ببعض معناه زاد :
فقيل : يا رسول الله أنزلتهم في المسجد وهم مشركون فقال :
( إن الأرض لا تنجس إنما ينجس ابن آدم ) .
والحديث رواه ابن أبي شيبة والطبراني أيضا من رواية الحسن عن عثمان كما في ( تخريج الكشاف ) .
وأما هذه الزيادة المرسلة فقد رواها بعضهم موصولة فقال أبو بكر الجصاص في ( أحكام القرآن ) :
( وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص :
أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد فقالوا : يا رسول الله قوم أنجاس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما أنجاس الناس على أنفسهم ) .
وروى يونس عن الزهري بن المسيب :
أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام لقول الله : { فلا يقربوا المسجد الحرام } [ التوبة/28 ] قال أبو بكر : فأما وفد ثقيف فإنهم جاؤا بعد فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والآية نزلت في السنة التي حج فيها أبو بكر وهي سنة تسع فأنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وأخبرأن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا يمنع الكافر من دخول المسجد . واما أبو سفيان فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتجديد الهدنة وذلك قبل الفتح وكان أبو سفيان مشركا حينئذ والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب المسجد الحرام ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المساجد ) .
وبالجملة فهذه الزيادة في ثبوتها في الحديث نظر لأنها مرسلة عند البيهقي ولم نقف عليها موصولة إلا فيما أورده أبو بكر الجصاص معلقا .
أقول هذا وإن كان احتج بها صديق حسن خان في ( الروضة الندية ) .
ولا ندري سنده في ذلك . هذا مع العلم أن أصل الحديث في ثبوته نظرا لما سبق من علته . والله أعلم .
( والمساجد كلها في ذلك سواء إلا المسجد الحرام فإنه لا يجوز تمكينهم من قربانه لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة/28 ] ) .
والآية دليل على تحريم دخول الكفار والمشركين إلى المسجد الحرام وهذا اللفظ يدل على جميع الحرم وهو مذهب عطاء بن أبي رباح قال : ( الحرم كله قبلة ومسجد فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم لقوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } وإنما رفع من بيت أم هانئ ) .
ذكره القرطبي ثم قال :
( فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول ) .
قلت : وتخصيص المسجد الحرام بالذكر في الآية الكريمة يدل على أن غيره من المساجد ليس في حكمه فيجوز دخول المشركين إليها ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة . وإلى هذا ذهب ابن حزم في ( المحلى ) فقال :
( ودخول المشركين في جميع المساجد جائز حاشا حرم مكة كله المسجد وغيره فلا يحل البتة أن يدخله كافر . وهو قول الشافعي وأبي سليمان وقال أبو حنيفة : لا بأس أن يدخله اليهودي والنصراني ومنع منه سائر الأديان وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد قال الله تعالى : { إنما المشركون نجس . . . } الآية قال ابن حزم : فخص الله المسجد الحرام فلا يجوز تعتديه إلى غيره بغير نص ) .
قلت : واحتج أتباع مالك لمذهبه بالتعليل المذكور في الآية فأجروه في سائر المساجد فقال القرطبي :
( قال الشافعي رحمه الله : الآيةعامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام ولا يمنعون من دخول غيره فأباح دخول اليهود والنصارى في سائر المساجد ) . قال ابن العربي :
( وهذا جمود منه على الظاهر لأن قوله عز وجل : { إنما المشركون نجس } [ التوبة/28 ] تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة ) . قال صديق خان في ( نيل المرام ) :
( ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال في مسجده وإنزال وفد ثقيف فيه ) .
قلت : أما ربط ثمامة فقد أجاب عنه ابن العربي نفسه بأنه كان قبل نزول الآية وبمثل هذا أجاب عنه ابن العربي نفسه كان قبل نزول الآية وبمثل هذا أجاب عن دخول أبي سفيان المسجد كما سبق .
وأما نزول وفد ثقيف فيه فلو صح إسناده لكان حجة عليهم لا جواب لهم عنه لأنه كان بعد نزول الآية كما سبق ذكره عن أبي بكر الجصاص .
قلت : وقد اختلف النقل عن أبي حنيفة في هذه المسألة فابن حزم نقل عنه - كما سبق - جواز دخول اليهودي والنصراني فقط إلى المسجد الحرام وغيره من المساجد وهو موافق لما حكاه الجصاص في ( الأحكام ) والعيني في ( العمدة ) عن أبي حنيفة . قال العيني :
( واحتج بما رواه أحمد في ( مسنده ) بسند جيد عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم ) . ) .
وغير هؤلاء نسبوا إلى أبي حنيفة القول بجواز دخول المشرك أيضا ففي ( فتح الباري ) :
( وفي دخول المشرك المسجد مذاهب فعن الحنفية الجواز مطلقا وعن المالكية والمزني المنع مطلقا وعن الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيره للآية وقيل : يؤذن للكتابي خاصة وحديث الباب يرد عليه فإن ثمامة ليس من أهل الكتاب ) .
ويؤيد هذا النقل ما في ( فيض الباري ) :
( وأما الحنفية فإنهم قالوا : إن المشرك ليس بنجس وله أن يدخل المسجد الحرام وغيره كما في ( الجامع الصغير ) فأشكلت عليهم الآية . قلت : وفي ( السير الكبير ) أنه لا يدخل المسجد الحرام عندنا أيضا كما هو ظاهر النص واختاره في ( الدر المختار ) لأنه آخر تصانيف محمد رضي الله عنه ) .
ثم صرح الشيخ الكشميري صاحب ( الفيض ) باختياره وعلل ذلك بقوله فيما سبق من الكتاب :
( فإنه أوفق بالقرآن وأقرب إلى الأئمة ) .
قلت : وأما حديث جابر الذي احتج به أبو حنيفة فلا يصح لأنه من رواية شريك عن أشعث بن سوار عن الحسن عنه وهو في ( المسند ) من طريقين عن شريك . وله علتان :
الأولى : عنعنة الحسن البصري وهو مدلس كما في ( التقريب ) وغيره .
والأخرى : ضعف شريك - وهو القاضي - من قبل حفظه .
وقد جاء بإسناد قوي موقوفا على جابر وهو الصواب فقال أبو بكر الجصاص بعد أن ذكره من هذا الوجه معلقا :
( وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : ثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام } : إلا أن يكون عبدا أو واحدا من أهل الذمة ) .
قلت : وهذا إسناد صحيح : عبد الله بن محمد بن إسحاق هو أبو القاسم المعروف بحامض رأسه ترجمه الخطيب في ( تاريخه ) وقال :
( قال البرقاني : وسألت الأبهري عنه فقال : ثقة مات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ) .
وشيخه الحسن بن أبي الربيع الجرجاني من شيوخ ابن ماجه وهو الحسن ابن يحيى بن الجعد بن نشيط ترجمه الخطيب أيضا وقال :
( قال ابن أبي حاتم الرازي : سمعت منه مع أبي وهو صدوق ) .
وكذا قال الحافظ في ( التقريب ) أنه :
( صدوق ) .
وبقية رجال الإسناد ثقات على شرط مسلم .
ومن هذا تعلم أن قول ابن العربي :
( إنه سند ضعيف ) .
غير صحيح .
ثم قال أبو بكر الجصاص :
( فوقفه أبو الزبير على جابر ( يعني ورفعه الحسن ) وجائز أن يكونا صحيحين فيكون جابر قد رفعه تارة وأفتى به أخرى ) .
قلت : وهذا الجمع حسن ولكنه إنما يصار إليه إذا كان من رفعه حجة في روايته وحفظه وقد علمت أن في الرواية المرفوعة علتين بخلاف هذه الموقوفة فكانت هي الراجحة .
( لطيفة ) : قال ابن العربي :
( ولقد كنت أرى بدمشق عجبا : كان لجامعها بابان : باب شرقي وهو باب جيرون وباب غربي وكان الناس يجعلونه طريقا يمشون عليها نهارهم كله في حوائجهم وكان الذمي إذا اراد المرور وقف على الباب حتى يمر به مسلم مجتاز فيقول له الذمي : يا مسلم اتأذن لي أن أمر معك ؟ فيقول : نعم فيدخل معه وعليه الغيار - علامة أهل الذمة - فإذا رآه القيم صاح به : ارجع ارجع فيقول له المسلم : أنا أذنت له . فيتركه القيم ) .
هذا ولابن حزم في هذا المقام بحث قيم في تحقيق أن لفظ ( المشركين ) في الآية السابقة يشمل اليهود والنصارى خلافا لأبي حنيفة رحمه الله فلا بد من نقله لما فيه من الفوائد ودفع بعض الشبهات حول بعض الآيات مما قد لا يوجد في كتاب آخر فقال رحمه الله :
( وأما قول أبي حنيفة فإنه قال : إن الله تعالى قد فرق بين المشركين وبين سائر الكفار فقال تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } [ البينة/1 ] وقال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم } [ الحج/17 ] قال : والمشرك هو من جعل لله شريكا لا من لم يجعل له شريكا .
قال ابن حزم : لا حجة له غير ما ذكرنا .
فأما تعلقه بالآيتين فلا حجة له فيهما لأن الله تعالى قال : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } [ الرحمن/68 ] والرمان من الفاكهة وقال تعالى : { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } [ البقرة/98 ] وهما من الملائكة وقال تعالى : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى } [ الأحزاب/7 ] وهؤلاء من النبيين .
إلا أنه كان يكون ما احتج به أبو حنيفة حجة إن لم يأت برهان بأن اليهود والنصارى والمجوس والصابئين مشركون لأنه لا يحمل شيء معطوف على شيء إلا أنه غيره حتى يأتي برهان بأنه هو أو بعضه . فنقول وبالله التوفيق :
أن أول مخالف لنص الآيتين أبو حنيفة لأن المجوس عنده مشركون وقد فرق الله تعالى في الذكر بين المجوس وبين المشركين فبطل تعلقه بعطف الله تعالى إحدى الطائفتين على الأخرى .
ثم وجدنا الله تعالى قد قال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء/48 ] فلو كان ههنا كفر ليس شركا لكان مغفورا لمن شاء الله تعالى بخلاف الشرك وهذا لا يقوله مسلم .
ثم روى ابن حزم من طريق مسلم بإسناده إلى ابن مسعود قال : قال رجل : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك . قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك .
ومن طريقه أيضا بسنده عن أبي بكرة قال :
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثا الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور ) .
وعنه أيضا عن أبي هريرة مرفوعا :
( اجتنبوا السبع الموبقات ) . قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال :
( الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) .
قال علي بن حزم : فلو كان ههنا كفر ليس شركا لكان ذلك الكفر خارجا عن الكبائر ولكان عقوق الوالدين وشهادة الزور أعظم منه وهذا لا يقوله مسلم فصح أن كل كفر شرك وكل شرك كفر وأنهما اسمان شرعيان أوقعهما الله تعالى على معنى واحد .
وأما حجته بأن المشرك هو من جعل لله شريكا فقط فهي منتقضة عليه من وجهين :
أحدهما : أن النصارى يجعلون لله شريكا يخلق كخلقه وهو يقول : إنهم ليسوا مشركين . وهذا تناقض ظاهر .
والثاني : أن البراهمة والقائلين بأن العالم لم يزل وأن له خالقا واحدا لم يزل والقائلين بنبوة علي بن أبي طالب والمغيرة وبزيغ - كلهم لا يجعلون لله تعالى شريكا وهم عند أبي حنيفة مشركون . وهو تناقض ظاهر .
ووجه ثالث : وهو أنه لم يكن المشرك إلا ما وقع عليه اسم التشريك في اللغة - وهو من جعل الله تعالى شريكا فقط - لوجب أن لا يكون الكفر إلا من كفر بالله تعالى وأنكره جملة لا من أقر به ولم يجحده فيلزم من هذا أن لا يكون الكفار إلا الدهرية فقط وأن لا يكون اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا البراهمة كفارا لأنهم كلهم مقرون بالله تعالى وهو لا يقول بهذا ولا مسلم على ظهر الأرض أو كان يجب أن يكون كل من غطى شيئا كافرا فإن الكفر في اللغة : التغطية . فإذ كل هذا باطل فقد صح أنهما اسمان نقلهما الله تعالى عن موضوعهما في اللغة على كل من أنكر شيئا من دين الإسلام يكون بإنكاره معاندا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النذارة إليه . وبالله تعالى التوفيق ) .
قلت : والإلزام المذكور في الوجه الثالث لم يتبين لي صوابه لأن من يقول بأن الشرك غير الكفر يجعله أخص منه ومن المعلوم أن الأخص يدخل في الأعم كدخول النصارى واليهود في المشركين عند ابن حزم في الآية السابقة وعند غيره من سلف الصحابة والتابعين في قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } [ البقرة/221 ] الآية .
فكل من أشرك فقد كفر اتفاقا فالإلزام غير وارد غير أن ابن حزم يقول العكس أيضا وهو أن كل من كفر بشيء من المكفرات فقد أشرك والأدلة التي ساقها تؤيد ذلك ولا أعلم ما يباين ذلك من الكتاب والسنة بل إن ظاهر قوله تعالى في سورة الكهف : { واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنيتن من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا } [ الكهف/32 ] إلى قوله تعالى : { فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا . ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي } الآيات [ الكهف/34 - 38 ] إلى قوله تعالى : { وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا } [ الكهف/42 ] .
فقد أطلق سبحانه على هذا الرجل الذي أنكر البعث والحشر أنه أشرك به تعالى . هذا هو الظاهر من سياق الآيات فإنه تعالى لم يحك عنه من الكفر غير ما ذكر ثم حكى ندمه حين رأى ما حل بثمره وجنتيه بقوله : { يا ليتني لم أشرك بربي أحدا } فأطلق الشرك على الكفر المذكور ولعل وجهه أن جحوده البعث مصير منه إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه فهو إشراك ) . كذا ذكره القرطبي بنحوه . والله أعلم .
( 8 - إدخال الدابة للحاجة لأنه عليه الصلاة والسلام دخل المسجد الحرام طائفا على ناقته كما قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه : ( طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف ويسألوه [ ف ] إن الناس غشوه ) .
الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد من طريق ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله . والسياق لأحمد والزيادة لمسلم وأبي داود ورواية لأحمد .
وله شاهد من حديث عائشة عند مسلم والنسائي بلفظ :
طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن بمحجنه . زاد مسلم :
كراهية أن يضرب عنه الناس .
وأخر من حديث أبي الطفيل . وفي الباب عن أم سلمة في طوافها راكبة وسيأتيان في ( الحج ) إن شاء الله تعالى .
وقد ترجم البخاري لحديث أم سلمة في ( كتاب الصلاة ) ب :
( باب إدخال البعير في المسجد لعلة ) .
أي : الحاجة .
قال ابن بطال :
( في هذا الحديث جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب . وتعقب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة بل ذلك دائر على التلويث وعدمه فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول ) .
واعترضه العيني في ( شرحه ) بقوله :
( وفيه نظر لأن قوله صلى الله عليه وسلم : ( طوفي وأنت راكبة ( يعني أم سلمة ) لا يدل على أن الجواز وعدمه دائران مع التلويث بل ظاهره يدل على الجواز مطلقا عند الضرورة . وقيل : إن ناقته كانت مدربة معلمة فيؤمن منها ما يحذر من التلويث وهي سائرة . قلت : سلمنا هذا في ناقة النبي عليه الصلاة والسلام لكن ما يقال في الناقة التي كانت عليها أم سلمة وهي طائفة ؟ ولئن قيل : إنها كانت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم . قيل له : يحتاج إلى بيان ذلك بالدليل ) .
( 9 - الوضوء ف ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ في المسجد ) .
الحديث أخرجه أحمد : ثنا وكيع عن أبي خالد عن أبي العالية عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال :
حفظت لك أن . . . إلخ .
وهذا إسناد حسن كما قال الهيثمي .
قلت : ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي خالد وهو مهاجر بن مخلد أبو مخلد ويقال : أبو خالد مولى البكرات روى عن عبد الرحمن بن أبي بكرة وأبي العالية الرايحي وعنه عوف الأعرابي ووهيب وخالد الحذاء وحماد بن زيد وأخوه سعيد بن زيد وعبد الوهاب الثقفي . وكان وهيب يعيبه ويقول :
( لا يحفظ ) . وقال ابن معين :
( صالح ) . وقال أبو حاتم :
( لين الحديث ليس بذاك وليس بالمتقن يكتب حديثه ) .
وذكره ابن حبان في ( الثقات ) . وقال الساجي :
( هو صدوق معروف وليس من قال فيه : مجهول . بشيء ) .
قلت : فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى إذا لم يخالف .
وقد صح أن أبا هريرة توضأ على ظهر المسجد .
أخرجه أحمد ومسلم .
وفي الحديث جواز الوضوء في المسجد قال النووي في ( شرح مسلم ) :
( وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على جوازه ما لم يؤذ به أحدا ) .
قلت : وقال العراقي في ( شرح التقريب ) :
( وحكى ابن بطال جوازه عن أكثر أهل العلم وحكى عن مالك وسحنون كراهته تنزيها للمسجد ) .
قلت : والحديث حجة عليهما .
نعم يجب أن لا يقترن به ما يخل شرعا كما هو الواقع اليوم في أكثر المساجد التي جر إليها ماء الفيجة لما يسمع من الصوت الشديد من أثر اندفاع الماء من ( الحنفيات ) واصطدامه بالبلاط مما يحصل منه ضوضاء وتشويش على المصلين فيه ولذلك نرى أنه من الضروري جعل الميضأة في مكان محصور بجنب المساجد لا داخله كما هو الأمر في جامع ( عيسي باشا ) تجاه سوق الحميدية وغيره .
( 10 - الاجتماع والتحلق لدراسة القرآن والعلم لحديث :
بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد [ فلما وقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلما ] فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا . فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ ) [ قالوا : بلى يا رسول الله قال : ]
( أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه ) .
الحديث من رواية أبي واقد الليثي رضي الله عنه .
أخرجه البخاري - والسياق له في رواية - ومسلم والترمذي ثلاثتهم عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة : أن أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب أخبره عنه .
وعزاه الحافظ للنسائي أيضا وقال :
( وهو في ( الموطأ ) .
قلت : ولم أجده الآن عندهما .
والزيادة الأولى للترمذي وهي عند النسائي أيضا وأكثر رواة الموطأ كما في ( الفتح ) .
وقد أخرجه أحمد من طريق يحيى بن أبي كثير : ثني إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة به نحوه . وفيه الزيادة الأخرى .
( 1 ) ثم وجدته في ( الموطأ ) ( 3/132 - 133 ) وفيه الزيادة الأولى . وقد وجدت للحديث شاهدا من رواية أنس نحوه . أخرجه الحاكم ( 4/255 ) وصححه ووافقه الذهبي . وهو حسن الإسناد .
وأخرجه مسلم أيضا من هذا الوجه لكنه لم يسق لفظه بل أحال على ما قبله بقوله :
( بمثله في المعنى ) .
قال النووي في شرح الحديث :
( فيه استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للناس والمسجد أفضل فيذاكرهم العلم والخير وفيه جواز حلق العلم والذكر في المسجد واستحباب دخولها ومجالسة أهلها وكراهة الانصراف عنها من غير عذر . . . إلخ ) . قال الحافظ :
( وأما ما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة قال :
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق فقال : ( ما لي أراكم عزين ) . فلا معارضة بينه وبين هذا لأنه إنما كره تحلقهم على ما لا فائدة فيه ولا منفعة بخلاف تحلقهم حوله فإنه كان لسماع العلم والتعلم منه ) .
قلت : هذا الحديث ليس فيه إنكاره عليه الصلاة والسلام تحلقهم مطلقا بل إنما أنكر عليهم تفرقهم حلقا حلقا وهذا هو معنى قوله : ( عزين ) . قال النووي :
( أي : متفرقين جماعة جماعة وهو بتخفيف الزاي الواحدة عزة معناه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع ) .
قلت : ويؤيد ذلك أنا أبا داود أخرج الحديث من طريق الأعمش ثم روى عقب ذلك عنه أنه قال :
( كأنه يحب الجماعة ) .
فالحديث إذن لا علاقة له بالتحلق لا سلبا ولا إيجابا .
( و( خرج على حلقة من أصحابة فقال : ( ما أجلسكم ؟ ) قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به ( وفي لفظ : ( بك ) علينا قال : ( آلله ما أجلسك إلا ذاك ؟ ) قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك . قال :
( أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني : أن الله يباهي بكم الملائكة ) .
الحديث من رواية معاوية بن أبي سفيان .
أخرجه مسلم - والسياق له - والنسائي والترمذي وأحمد من طريق مرحوم بن عبد العزيز عن أبي نعامة السعدي عن أبي عثمان عن أبي سعيد الخدري عنه . واللفظ الآخر للنسائي وأحمد .
( وقال عليه الصلاة والسلام : ( ما اجتمع قوم ( وفي لفظ : ( ما من قوم يجتمعون ) في بيت من بيوت الله تعالى يتلون [ ويتعلمون ] كتاب الله ويتدراسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
الحديث من رواية أبي هريرة .
أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد عن الأعمش عن أبي صالح عنه . واللفظ الآخر والزيادة لأحمد . ثم هو قطعة من حديث عند مسلم وابن ماجه وقد عزاه بتمامه المنذري لأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في ( صحيحه ) والحاكم وقال :
( صحيح على شرطهما ) .
قال النووي في ( شرح مسلم ) :
( قيل المراد بالسكينة هنا الرحمة وهو الذي اختاره القاضي عياض وهو ضعيف لعطف الرحمة عليه . وقيل الطمأنينة والوقار وهو أحسن . وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال مالك : يكره . وتأوله بعض أصحابه ) .
قلت : ولعل التأويل المشار إليه هو أن الذي كره مالك من الاجتماع ما خالف هديه عليه الصلاة والسلام فيه كالاجتماع على القراءة بصوت واحد فإنه بدعة لم تنقل عنه عليه الصلاة والسلام ولا عن أحد من الصحابة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر من يقرأ القرآن ليسمع قراءته كما كان ابن مسعود يقرأ عليه وقال : ( إني أحب أن أسمعه من غيري ) وكان عمر يأمر من يقرأ عليه وعلى أصحابه وهم يستمعون فتارة يأمر أبا موسى وتارة يأمر عقبة بن عامر . رواه الحافظ ابن رجب في ( جامع العلوم والحكم ) ثم قال :
( وذكر حرب أنه رأى أهل دمشق وأهل حمص وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصبح ولكن أهل الشام يقرؤون القرآن كلهم جملة من سورة واحدة بأصوات عالية وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون فيقرأ أحدهم عشر آيات والناس ينصتون ثم يقرأ آخر عشر آيات حتى يفرغوا قال حرب : وكل ذلك حسن جميل . وقد أنكر مالك ذلك على أهل الشام ) .
قلت : وهذا الذي أنكره مالك هو الحق إن شاء الله تعالى لمخالفته ا لسنة كما سبق .
( غير أن ذلك لا يجوز قبل صلاة الجمعة خاصة كما سبق في ( المناهي ) فقرة ( 5 ) .
( 11 - إنشاد الشعر الحسن أحيانا ولا سيما إذا كان في الذب عن الإسلام فإنه حينئذ من الجهاد فقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وفي لفظ : ( ينافح عنه بالشعر ) وفي آخر : يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله [ ل ] يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
الحديث من رواية عائشة رضي الله عنه .
أخرجه أبو داود - واللفظ الثالث له - والترمذي والحاكم - والسياق له - وأحمد - واللفظ الثاني وكذا الزيادة له - من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة وهشام بن عروة عن عروة عنها .
وهذا إسناد حسن وقال الترمذي :
( حسن صحيح ) . وقال الحاكم :
( صحيح الإسناد ) . ووافقه الذهبي :
وهو في ( صحيح مسلم ) من طريق أخرى عنها لكن ليس فيه وضع المنبر في المسجد وفيه : وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( هجاهم حسان فشفى واستشفى ) قال حسان :
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
الأبيات بتمامها
( وقد ( مر عمر رضي الله عنه بحسان وهو ينشد [ الشعر ] في المسجد [ فلحظ إليه ] [ فقال : مه ] قال : [ - في حلقة فيهم أبو هريرة - ] : كنت أنشد وفيه من هو خير منك [ ثم التفت إلى أبي هريرة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أجب عني اللهم أيده بروح القدس ) ؟ قال : نعم ] [ فانصرف عمر وهو يعرف أنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ) .
الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد - والسياق له - كلهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال . . . فذكره . والزيادة الأولى لمسلم والثانية للجميع إلا البخاري والسادسة لهم إلا أبا داود .
ورواه معمر عن الزهري به مختصرا دون ذكر المسجد وإنكار عمر على حسان . وفيه الزيادة الخامسة .
أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد :
ورواه إبراهيم بن سعد عنه دون المرفوع منه وفيه الزيادة الثالثة والأخيرة .
أخرجه أحمد .
ثم أخرجه من طريق محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن قال : مر عمر . . . الحديث بنحو رواية إبراهيم وفيه الزيادة الرابعة .
ثم تبين لي أن هذا الإسناد منقطع فإن يحيى بن عبد الرحمن هذا هو ابن حاطب بن أبي بلتعة ولم يذكروا له رواية عن الصحابة وقد كانت وفاته سنة ( 104 ) ووفاة عمر سنة ( 23 ) فيبعد أن يكون شاهد القصة . ولذلك وجب الضرب على هذه الزيادة وقد فعلنا .
ثم الحديث أخرجه البخاري ومسلم من طرق عن الزهري أيضا قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة : أنشدك الله هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أيده بروح القدس ) ؟ قال أبو هريرة : نعم .
( وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ) .
هو من حديث كعب بن مالك :
أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم :
إن الله عز وجل قد أنزل في الشعر ما أنزل . فقال . . . فذكره .
أخرجه أحمد : ثنا عبد الرزاق : أنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه به .
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين .
وله شاهد من حديث أنس قال :
دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وابن رواحة بين يديه يقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
قال عمر : يا ابن رواحة في حرم الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا الشعر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خل عنه فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل ) .
أخرجه النسائي والترمذي من طريق عبد الرزاق قال : ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عنه .
وهذا سند صحيح على شرط مسلم .
وفي حديث حسان : جواز الشعر الحسن في المسجد وقد ترجم له النسائي بقوله :
( الرخصة في إنشاد الشعر الحسن في المسجد ) .
وإلى هذا ذهب الكثرة من العلماء .
وأما تناشد الأشعار فمنهي عنه كما سبق بيانه في ( المناهي ) فقرة ( 6 ) وقد قال البيهقي :
( ونحن لا نرى بإنشاد مثل ما كان يقول حسان في الذب عن الإسلام وأهله بأسا في المسجد ولا في غيره والحديث الأول ورد في تناشد أشعار الجاهلية وغيرها مما لا يليق بالمسجد . وبالله التوفيق ) .
( 13 - نصب الخيمة للمريض وغيره للحاجة قالت عائشة رضي الله عنه : ( أصيب سعد [ ابن معاذ ] يوم الخندق [ رماه رجل من قريش يقال له : حبان بن العرقة ] في الأكحل فضرب عليه النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد [ ل ] يعوده من قريب [ فلم يرعهم - وفي المسجد [ معه ] خيمة من بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم فقالوا : يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم ؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما مات عنها ] ) .
الحديث أخرجه البخاري - والسياق له - ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد من طريق هشام عن أبيه عنها . والزيادة الثانية لأحمد وكذا البخاري ومسلم في رواية لهما والثالثة لمسلم وحده والرابعة للجميع إلا هو والأخيرة للشيخين والزيادة فيها لمسلم .
وله طريق أخرى أخرجه أحمد عن محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص عنها بنحوه أتم منه وفيه الزيادة الأولى .
وهذا إسناد حسن كما قال الحافظ في ( الفتح ) .
والحديث ترجم له البخاري ب :
( باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم ) . قال الحافظ :
( أي : جواز ذلك ) . وفي ( العمدة ) :
( قال ابن بطال : فيه جواز سكنى المسجد للعذر والباب مترجم به ) . وفي ( شرح مسلم ) :
( فيه جواز النوم في المسجد وجواز مكث المريض فيه وإن كان جريحا ) وفي ( نيل الأوطار ) :
( والحديث يدل على جواز ترك المريض في المسجد وإن كان في ذلك مظنة لخروج شيء منه يتنجس به المسجد ) .
( وقد ( كان عليه السلام يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ( قالت عائشة رضي الله عنه : فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله [ وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فأمر ببنائه فضرب ] [ فاستأذنته عائشة أن تعتكف فاذن لها فضربت فيه قبة ] [ وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ففعلت ] [ فأمرت ببنائها فضرب ] فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر [ وكانت امرأة غيورا ] فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وفي لفظ : ( فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغداة ) [ إلى المكان الذي أراد أن يعتكف ] ) رأى الأخبية فقال : ( ما هذا ) ؟ [ قالوا : بناء عائشة وحفصة وزينب ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( آلبر ترون بهن ؟ ( وفي رواية : ( آلبر أردن بهذا ؟ ما أنا بمعتكف ) وفي أخرى : ما حملهن على هذا ؟ آلبر ؟ انزعوها فلا أراها فنزعت وفي لفظ : ( فأمر ببنائه فقوض وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت ) فترك الاعتكاف في ذلك الشهر ثم اعتكف عشرا من شوال ) .
الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد من طرق عن يحيى بن سعيد الأنصاري : حدثتني عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة به . والسياق للبخاري والزيادة الثانية له وكذا الثالثة والرابعة له ولأحمد وله الزيادة التي فيها وكذا التي بعدها . والزيادة الأولى لأبي داود ولمسلم نحوها والزيادة السادسة لأبي عوانة كما في ( الفتح ) والزيادة السابعة للبخاري وكذا الثامنة والتاسعة ولأحمد أيضا هذه الأخيرة واللفظ الثاني والرواية الثانية والثالثة للبخاري واللفظ الثالث لأبي داود .
والحديث ترجم له النسائي كا ترجم للحديث الأول بقوله :
( ضرب الخباء في المساجد ) . وقال الحافظ :
( ومنه جواز ضرب الأخبية في المسجد ) .
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري قال :
اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهروا ( كذا ) بالقراءة وهو في قبة له فكشف الستور وقال : ( ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة ) أو قال : ( في الصلاة ) .
أخرجه أحمد : ثنا عبدالرزاق : ثنا معمر عن إسماعيل بن أمية عن أبي سملة بن عبد الرحمن عنه .
وهذا سند صحيح على شرط الستة . وقد أخرجه منهم أبو داود من هذا الوجه .
( 14 - اللعب بالحراب ونحوها من آلات الحرب لما فيه من التدرب على القتال والتقوي للجهاد فقد ( دخل عمر رضي الله عنه والحبشة يلعبون [ في المسجد ] فزجرهم عمر ( وفي رواية : فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعهم يا عمر [ فإنما هم بنو أرفدة ] ) .
الحديث من رواة أبي هريرة رضي الله عنه .
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عنه . والسياق للنسائي والرواية الأخرى هي رواية للشيخين ورواية لأحمد والزيادة الأولى للجميع إلا مسلما والأخرى للنسائي وأحمد وهي عند أبي عوانة ايضا في ( صحيحه ) كما في ( الفتح ) ( 2/356 ) وقال :
( كأنه يعني أن هذا شأنهم وطريقتهم وهو من الأمور المباحة فلا إنكار عليهم ) .
وللحديث شاهد من رواية عائشة رضي الله عنه وهو :
( قالت عائشة رضي الله عنها : ( فدعاني صلى الله عليه وسلم [ والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد ] [ في يوم عيد ] [ فقال لي : يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم ؟ فقلت : نعم ] [ فأقامني وراءه ] [ فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم ] فوضعت ذقني على عاتقه وأسندت وجهي إلى خده ] فنظرت من فوق منكبيه ( وفي رواية : ( من بين أذنه وعاتقه ) [ وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة ] [ قالت : ومن قولهم يومئذ : أبا القاسم طيبا ] حتى شبعت ) ( وفي رواية : ( حتى إذا مللت قال : حسبك ؟ قلت : نعم قال : فاذهبي ) وفي أخرى : قلت : لا تعجل فقام لي ثم قال : حسبك قلت : لا تعجل قالت : وما بي حب النظر إليهم ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه [ وأنا جارية ] [ فاقدروا قدر الجارية [ العربة ] الحديثة السن الحريصة على اللهو ] ) .
الأول : عروة عنها .
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والطيالسي وأحمد من طرق عنه يزيد بعضهم على بعض . والسياق لأحمد والزيادة الأولى للجميع إلا أن النسائي والطيالسي ليس عندهم : ( بحرابهم ) والزيادة الثانية للنسائي وأحمد وللشيخين معناها والرابعة للشيخين والخامسة لأحمد وحده وسندها صحيح على شرط الستة والسابعة للشيخين والتاسعة لمسلم والعاشرة لهم جميعا إلا الطيالسي والزيادة التي فيها لمسلم وحده وزاد أحمد في رواية :
قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ :
( لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة ) .
أخرجها من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : قال لي عروة أن عائشة قالت :
وعبد الرحمن هذا حسن الحديث وفي حفظه ضعف ولذلك قال ابن عدي :
( بعض ما يرويه لا يتابع عليه ) .
ولذلك تنكبت زيادته هذه حيث تفرد بها دون كل من روى الحديث عن عروة .
وقد عزاه الحافظ للسراج من طريق أبي الزناد به . وسكت عليه فإن كان من طريق ابنه عنه فقد علمت ما فيه وإن كان من طريق غيره فيجب النظر فيه . والله أعلم .
والرواية الثانية لأحمد وحده . وإسناده صحيح على شرط الستة أيضا وهي في الطريق الثاني أيضا .
الثاني : عبيد بن عمير عنها نحوه وفيه الرواية الثانية .
أخرجه مسلم وأحمد .
الثالث : يحيى بن عبد الرحمن عنها مختصرا وفيه معنى الزيادة الخامسة .
أخرجه أحمد : ثنا خلف بن الوليد قال : ثنا عباد بن عباد عن محمد بن عمرو عنه .
وهذا إسناد رجاله ثقات غير أنه منقطع بين يحيى وعائشة كما قد سبق .
الرابع : أبو سلمة عنها . وفيه الزيادة الثالثة والسادسة والثامنة والرواية الثالثة .
قال الحافظ بعد أن عزاه للنسائي ولعله يعني ( سننه الكبرى ) :
( إسناده صحيح ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا ) .
وكذا قال العراقي في ( تخريج الإحياء ) إن سنده صحيح .
والحديث ترجم له النسائي بقوله :
( اللعب في المسجد يوم العيد ونظر النساء إلى ذلك ) . وقال الحافظ في شرح قوله : ( والحبشة يلعبون في المسجد ) :
فيه جواز ذلك في المسجد وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي : أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة : أما القرآن فقوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع } [ النور/36 ] وأما السنة فحديث : ( جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ) . وتعقب بأن الحديث ضعيف وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ فيثبت النسخ . وحكى بعض المالكية عن مالك أن لعبهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في المسجد . وهذا لا يثبت عن مالك فإنه خلاف ما صرح به في طرق هذا الحديث وفي بعضها أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( دعهم ) . واللعب بالحراب ليس لعبا مجردا بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو وقال المهلب : المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه ) .
وهذا فيه تقييد اللعب الجائز في المسجد بما فيه مصلحة عامة . وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى .
وقد تعقب ذلك الصنعاني في ( سبل السلام ) باللفظ الذي تقدم : ( لتعلم يهود أن في ديننا فسحة . . . ) إلخ فقال :
( وهذا يدفع قول الطبري أنه يغتفر للحبش ما لا يغتفر لغيرهم فيقر حيث ورد ويدفع قول من قال : إن اللعب بالحراب ليس لعبا مجردا بل فيه تدريب الشجعان على مواضع الحروب والاستعداد للعدو ففي ذلك من المصلحة التي تجمع عامة المسلمين ويحتاج إليها في إقامة الدين فأجيز فعلها في المسجد ) .
قلت : وقد علمت مما سبق أن هذا اللفظ لا يصح بل هو ضعيف فلا يجوز الاعتماد عليه في هذا البحث لا سيما وهو مناف للإطلاق المذكور في الآية السابقة . والله أعلم
( 15 - ربط الأسير بالسارية للحديث المتقدم فقرة ( 7 ) : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال - سيد أهل اليمامة - فربطوه بسارية من سواري المسجد ) الحديث ) .
وهو حديث صحيح متفق عليه وقد سبق تخريجه هناك مع ذكره بتمامه . وقد ترجم له بما ذكرنا البخاري والنسائي وقال البخاري :
( وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى سارية المسجد ) . قال الحافظ :
( وقد وصله معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال : كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم بما عليه فإن أعطى الحق وإلا أمر به إلى السجن ) .
( وقوله عليه الصلاة والسلام : ( إن عفريتا من الجن جعل يتفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فذعته ( وفي رواية : ( فخنقته ) فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم ثم ذكرت قول أخي سليمان : { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } [ ص/35 ] فرده الله خاسئا ) .
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه .
وله عنه طريقان :
الأول : عن شعبة عن محمد بن زيادة قال : سمعت أبا هريرة يقول . . . فذكره .
أخرجه البخاري ومسلم والدارقطني .
الثاني : عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه به نحوه مختصرا بالرواية الثانية .
أخرجه البيهقي .
وهذا سند حسن .
وقد جاءت هذه القصة عن جمع من الصحابة غير أبي هريرة :
منهم أبو الدرداء .
عند مسلم والنسائي والبيهقي .
ومنهم جابر بن سمرة .
عند الدارقطني وأحمد والطبراني في ( الكبير ) .
وإسناده صحيح على شرط مسلم .
ومنهم أبو سعيد الخدري .
عند أحمد بسند حسن ولعله يأتي في ( السترة ) . وقال الهيثمي :
( ورجاله ثقات ) .
والحديث ترجم له البخاري بعدة تراجم منها :
( باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد ) . قال شارحه العيني :
( فيه دليل على إباحة ربط الأسير في المسجد وعلى هذا بوب البخاري الباب ومن هذا قال المهلب : إن في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحق عليه أو دين والتوثق منه في المسجد أو غيره ) .
( 16 - القضاء واللعان لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه : ( أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله أم كيف يفعل ؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر من القرآن من أمر المتلاعنين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد قضى الله فيك وفي امرأتك . قال : فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد . . . . الحديث ) .
أخرجه البخاري - والسياق له - ومسلم من طريق ابن جريج قال : أخبرني ابن شهاب عن الملاعنة وعن السنة فيها عن حديث سهل بن سعد أخي بني ساعدة أن رجلا . . . إلخ .
وترجم له البخاري ب : ( باب التلاعن في المسجد ) .
وقد أخرجه مختصرا في موضعين أخرين من هذا الوجه وترجم له فيهما ب : ( باب القضاء واللعان في المسجد ) .
والحديث رواه مالك عن ابن شهاب به نحوه .
ومن طريق مالك أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والدارمي وأحمد كلهم عن مالك به .
وذكر البخاري تعليقا :
( ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر وكان الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد ) .
وقد ذكر الحافظ في ( شرحه ) من وصل هذه الآثار فليرجع إليه فلا نطيل بذكر ذلك . ثم قال الحافظ :
( قال ابن بطال : استحب القضاء في المسجد طائفة وقال مالك : هو الأمر القديم لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس لإمكان الاحتجاب . قال : وبه قال أحمد وإسحاق وكرهت ذلك طائفة وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد فإنه يأتيك الحائض والمشرك . وقال الشافعي : أحب إلي أن يقضي في غير المسجد لذلك . وقال الكرابيسي : كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك فيدخل المشرك المسجد . قال : ودخول المشرك المسجد مكروه . ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره . ثم ساق في ذلك أثارا كثيرة . قال ابن بطال : وحديث سهل بن سعد حجة للجواز وإن كان الأولى صيانة المسجد وقد قال مالك : كان من مضى يجلسون في رحاب المسجد إما في موضع الجنائز وإما في رحبة دار مروان قال : وإني لأستحب ذلك في الأمصار ليصل إليه اليهودي والنصراني والحائض والضعيف وهو أقرب إلى التواضع ) .
قلت : وقول الكرابيسي :
( ودخول المشرك المسجد مكروه ) .
مما لا دليل على إطلاقه بل السنة تدل على جواز إدخالهم المساجد إلا المسجد الحرام كما سبق بيانه في الفقرة السابعة ويؤيد ذلك الآثار التي استدرك بها هو نفسه على قول هذا فتنبه .
وفي ( العمدة ) ما ملخصه :
( وإنما ذكر البخاري هذا الحديث مختصرا لأجل جواز القضاء في المسجد وهو عند عامة العلماء وعن الشافعي كراهيته في المسجد إذا أعده لذلك دون ما إذا اتفقت له حكومة فيه . وقال أصحابنا جميعا : والمستحب أن يجلس في مجلس الحكم في الجامع فإن كان مسجدا بجنب داره فله ذلك وإن قضى في داره جاز والجامع أرفق المواضع بالناس وأجدر أن لا يخفى على أحد جلوسه ولا يوم حكمه وقد كان الشعبي يقضي في الجامع وشريح يقضي في المسجد ويخضب بالسواد وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده بين الأنصار في مواريث تقادمت ) .
قلت : هذا الحديث لم أقف عليه الآن فليراجع .
وقول الشافعي هو الأقرب إلى النظر لأنه لا يدفع ما ذكرنا من السنة كما أنه لا يلزم منه أي محذور في المسجد بخلاف ما لو أعد للقضاء فإنه حينئذ من الصعب تنزيهه من الغوغاء والضوضاء . والله أعلم .
( 17 - الاستلقاء لحديث عبد الله بن زيد المازني : أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى ) .
أخرجه البخاري ومسلم ومالك وعنه أبو داود وكذا النسائي ومحمد في ( موطأه ) والترمذي والدارمي والطيالسي وأحمد من طرق عن الزهري قال : أخبرني عباد بن تميم عن عمه به . وقال الترمذي :
( حديث حسن صحيح ) .
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة صححه ابن حبان كما في ( الفتح ) .
والحديث دليل على ما ذكرنا من جواز الاستلقاء في المسجد وبذلك ترجم له البخاري والنسائي وعلى ذلك جرى شرح ( الصحيحين ) وغيرهما . وقال الحافظ في ( الفتح ) :
( والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز وكان ذلك في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس لما عرف من عادته الجلوس بينهم بالوقار التام صلى الله عليه وسلم قال الخطابي : وفيه جواز الاتكاء في المسجد والاضطجاع وأنواع الاستراحة وقال الداودي : فيه أن الأجر الوارد للابث في المسجد لا يختص بالجالس بل يحصل للمستلقي أيضا ) .
وأعلم أنه قد ثبت في ( صحيح مسلم ) وغيره من حديث جابر :
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره .
ومن الواضح أنه لا يعارض ما ذكرنا من الاستلقاء المطلق وإنما هو بظاهره يعارض الاستلقاء بالصورة المذكورة في الحديثين وقد جمع العلماء بينهما بأن حملوا هذا النهي حيث يخشى أن تبدو العورة والجواز حيث يؤمن ذلك . والله أعلم .
وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني من حديث قتادة بن النعمان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الله لما قضى خلقه استلقى فوضع رجله على الأخرى وقال : لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا ) .
ففي ثبوته نظر فقد قال الهيثي في ( المجمع ) :
( رواه الطبراني عن مشايخ ثلاثة : جعفر بن سليمان النوفلي وأحمد بن رشدين المصري وأحمد بن داود المكي . فأحمد بن رشدين ضعيف والاثنان لم أعرفهما وبقية رجاله رجال الصحيح ) .
وأنا أستبعد جدا صحة هذا الحديث لأنه يوحي بالمعنى الذي قاله اليهود المغضوب عليهم : ( خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع ) وهو يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة وقد رد الله تعالى عليهم في غير آية فقال تعالى : { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق/38 ] .
ويغلب على الظن أن أصل الحديث من الإسرائيليات التي تسربت إلى المسلمين من بعض أهل الكتاب ثم وهم فيه بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في ( مسند أحمد ) وهو خطأ كما بينه الحافظ ابن كثير في ( التفسير ) وغيره .
( 18 - النوم والقيلولة للمحتاج من الرجال ولو لغير غريب على أن لا يتخذ مبيتا ومقيلا وفي ذلك أحاديث :
( أ ) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه :
أنه كان ينام وهو شاب عزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي لفظ عنه قال :
( كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ننام في المسجد [ و] نقيل فيه ونحن شباب ) .
الحديث صحيح متفق عليه .
وله عنه طريقان :
الأول : عن عبيد الله بن عمر قال : ثني نافع قال : أخبرني عبد الله به .
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والدارمي وابن ماجه والبيهقي وأحمد من طرق عنه . واللفظ الثاني هو لفظ أحمد وكذا ابن ماجه إلا أنه ليس عنده : ( ونقيل . . . ) إلخ .
وقد تابعه عبيد الله بن عمر - وهو المصغر - العمري وهو عبد الله بن عمر المكبر وهو أخوه .
أخرجه أحمد .
الثاني : عن عبد الرزاق : أنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به نحوه .
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد ولفظ الترمذي مثل اللفظ الثاني إلا أنه لم يقل : ( ونقيل فيه ) . وقال :
( حديث حسن صحيح ) .
وقد تابعه عن الزهري صالح بن أبي الأخضر .
أخرجه أحمد .
( ب ) عن سهل بن سعد قال :
جاء رسول الله ببيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت فقال : ( أين ابن عمك ؟ ) قالت : كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان : ( انظر أين هو ؟ ) فجاء فقال : يا رسول الله هو [ ذا ] في المسجد راقد [ في فيء الجدار ] فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه ( وفي لفظ : عن ظهره وخلص التراب إلى ظهره ) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول :
( قم أبا تراب قم أبا تراب ) .
أخرجه البخاري ومسلم من طريق أبي حازم عنه . والزيادة الأولى للبخاري في ( الأدب المفرد ) ورواية في ( صحيحه ) والثانية للطبراني كما في ( الفتح ) وهي عند البخاري أيضا لكنه لم يذكر لفظة : ( فيء ) واللفظ الآخر له أيضا في رواية . والحديث أخرجه البيهقي أيضا .
وفي الباب أحاديث أخرى وسيأتي بعضها .
وفي الحديثين وما في معناهما جواز النوم والقيلولة في المسجد على التفصيل الذي ذكرنا وقد ترجم لهما البخاري بنحو ذلك فقال :
( باب نوم الرجال في المسجد ) . قال الحافظ :
( أي جواز ذلك وهو قول الجمهور وروي عن ابن عباس كراهيته إلا لمن يريد الصلاة وعن ابن مسعود مطلقا وعن مالك التفصيل بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح ) . ثم قال الحافظ في شرح حديث ( ب ) :
( فيه مراد الترجمة لأن حديث ابن عمر يدل على إباحته لمن لا مسكن له وكذا بقية أحاديث الباب إلا قصة علي فإنها تقتضي التعميم لكن يمكن أن يفرق بين نوم الليل وبين قيلولة النهار ) .
وفي الترمذي :
( وقد رخص قوم من أهل العلم في النوم في المسجد . وقال ابن عباس : لا يتخذه مبيتا ومقيلا وقوم من أهل العلم ذهبوا إلى قول ابن عباس ) .
وقال البيهقي :
( وروينا عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن النوم في المسجد ؟ فقال : فأين كان أهل الصفة ؟ يعني : ينامون فيه . وروينا عن ابن مسعود وابن عباس ثم عن مجاهد وسعيد بن جبير ما يدل على كراهيتهم النوم في المسجد فكأنهم استحبوا لمن وجد مسكنا أن لا يقصد المسجد للنوم فيه ) .
وأما قولنا : ( على أن لا يتخذ مبيتا ومقيلا ) فذلك لأن المساجد لم تبن لهذا فالإكثار من ذلك فيها لا سيما لغير حاجة مما يتنافى مع القصد من بنائها ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فتوى له في هذا الصدد :
( فيجب الفرق بين الأمر اليسير وذوي الحاجات وبين ما يصير عادة ويكثر وما يكون لغير ذوي الحاجات ولهذا قال ابن عباس : لا تتخذوا المسجد مبيتا ومقيلا ) .
( 19 - السكن في ناحية منه لمن لا مأوى له من الرجال أو النساء وفيه أحاديث :
( أ ) عن طلحة بن عمرو البصري قال : [ قدمت المدينة مهاجرا و] كان الرجل [ منا ] إذا قدم المدينة ف [ إن ] كان له عريف نزل عليه وإن لم يكن له عريف نزل الصفة فقدمتها [ وليس لي بها عريف ] فنزلت الصفة . . . الحديث ) .
أخرجه بتمامه الحاكم والبيهقي - والسياق له - من طرق عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود عنه . والزيادات للبيهقي إلا الثانية منها فهي لشيخه الحاكم وقال :
( صحيح الإسناد ) . ووافقه الذهبي .
وهو كما قالأ ورجاله إلى طلحة ثقات رجال مسلم .
وقد أخرجه أحمد أيضا من هذا الوجه ببعض اختصار . وأخرجه ابن حبان أيضا في ( صحيحه ) كما في ( تعجيل المنفعة ) والطبراني كما في ( الإصابة ) .
( ب ) عن أبي هريرة قال : ( كان أهل الصفة أضياف [ أهل ] الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ) .
هو قطعة من حديث له طويل أخرجه البخاري والترمذي والحاكم - والسياق لهما والزيادة للأول منهما - وصححه والبيهقي وأحمد من طرق عن عمر ابن ذر : ثنا مجاهد عنه به . قال الحافظ :
( وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط عند ابن سعد :
كان أهل الصفة ناسا فقراء لا منازل لهم فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره .
وله من طريق نعيم بن المجمر عن أبي هريرة :
كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه فإذا فرغنا قال : ناموا في المسجد ) .
قلت : الرواية الأولى في ( طبقات ابن سعد ) من باب ذكر أهل الصفة وأما الرواية الأخرى باللفظ المذكور فلم أجده في هذا الموضع المشار إليه من ( الطبقات ) وقد راجعت ترجمة أبي هريرة منها فلم أجده أيضا فالله أعلم بمكان هذه الرواية من ( الطبقات ) .
وروى البيهقي عن عثمان بن اليمان معضلا قال :
لما كثر المهاجرون إلى المدينة ولم يكن لهم دار ولا مأوى أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وسماهم أصحاب الصفة فكان يجالسهم ويأنس بهم .
( والصفة : موضع مظلل في المسجد النبوي ) .
كذا في ( الفتح ) .
( ج ) عن عائشة رضي الله عنه :
أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم قالت : فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور قال : فوضعته أو وقع منها فمرت به حدياة وهو ملقى فحسبته لحما فخطفته قالت : فالتمسوه فلم يجدوه قالت : فاتهموني به قالت : فطفقوا يفتشون قال : حتى فتشوا في قبلها قالت : فوالله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته قالت : فوقعت بينهم قالت : فقلت : هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو قالت : فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت .
قالت : عائشة : فكان لها خباء في المسجد أو حفش قالت : فكانت تأتيني فتحدث عندي قالت : فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت :
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا أنه من بلدةالكفر أنجاني
قالت عائشة : فقلت لها : ما شأنك لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا ؟ قالت : فحدثتني بهذا الحديث ) .
أخرجه البخاري من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه عنها به .
ثم أخرجه عن علي بن مسهر عن هشام به نحوه .
والحديث رواه ابن خزيمة أيضا كما في ( الفتح ) قال ابن بطال :
( فيه أن من لم يكن له مسكن ولا مكان مبيت يباح له بالمبيت في المسجد سواء كان رجلا أو امرأة عند حصول الأمن من الفتنة وفيه اصطناع الخيمة وشبهها للمسكين رجلا كان أو امرأة ) . نقله في ( العمدة ) .
قلت : والحديثان الأولان يدلان لذلك أيضا في خصوص الرجال وأما استيطان المسجد كله لضرورة - كما وقع في هذه الأيام حيث هاجر نحو سبعين ألفا من الفلسطينيين إلى سوريا هربا من فظائع اليهود فأنزلت الدولة بعضهم في كثير من المساجد - فأعتقد جواز ذلك بشرط أن لا يؤدي إلى تعطيل صلاة الجماعة بأن تكون الجوامع والمساجد كثيرة فينزل المهاجرون بعضها من التي لا يؤدي إغلاقها في وجوه المصلين إلى التعطيل المشار إليه . والله تعالى أعلم .
( 30 - قسمة المال لحديث :
أتي النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ( وفي رواية : أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفا ) فقال : ( انثروه في المسجد ) - وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وفي الرواية الأخرى : فأمر بها فنشرت على حصير ونودي بالصلاة ) فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه [ وجاء الناس حين رأوا المال وما كان يومئذ عدد ولاوزن ما كان إلا قبضا فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا [ يوم بدر ولم يكن لعقيل مال ] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خذ ) فحثا في ثوبه ( وفي الرواية الأخرى : في خميصة كانت عليه ) ثم ذهب يقله فلم يستطع [ فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا رسول الله مر بعضهم برفعه إلي قال : ( لا ) قال : فارفعه أنت علي [ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحكه أو نابه ] قال : ( لا ) [ لكن أعد في المال طائفة وقم بما تطيق ] فنثر منه ثم ذهب يقله [ فلم يرفعه ] فقال : يا رسول الله مر بعضهم يرفعه علي قال : ( لا ) قال : فارفعه أنت قال : ( لا ) فنثر منه ثم حمله فألقاه على كاهله ثم انطلق [ وهو يقول : أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزها ولا أدري ما يصنع في الأخرى يعني قوله : { قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم } [ الأنفال/70 ] فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة ] - فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبا من حرصه فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم ) .
الحديث أخرجه البخاري هكذا مطولا ومختصرا وهو معلق حيث قال : وقال إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز ابن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال . . . فذكره قال الحافظ :
( وقد وصله أبو نعيم في ( مستخرجه ) والحاكم في ( مستدركه ) من طريق أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان وقد أخرج البخاري بهذا الإسناد إلى إبراهيم بن طهمان عدة أحاديث ) .
قلت : وقد طلبت الحديث في مظانه من ( المستدرك ) فلم أجده فالله أعلم بمكانه منه وإنما وجدت فيه الرواية الأخرى وهي في ترجمة العباس رضي الله عنه من طريق هاشم بن القاسم : ثنا سليمان بن المغيرة عن حميد ابن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري : أن العلاء بن الحضرمي به نحوه وفيه الزيادات كلها إلا الزيادة السادسة فهي في رواية للبخاري .
وأخرجه ابن سعد في ( الطبقات ) عن شيخه هاشم بن القاسم به والسياق له . ثم قال الحاكم :
( حديث صحيح على شرط مسلم ) . ووافقه الذهبي .
وهو كما قالا .
ثم إن الحديث قد ترجم له البخاري ب :
( باب القسمة وتعليق القنو في المسجد ) . وقال الحافظ :
( فيه جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه من صدقة ونحوها في المسجد ومحله ما إذا لم يمنع مما وضع له المسجد من الصلاة وغيرها مما بني المسجد لأجله ونحو وضع هذا المال وضع مال زكاة الفطر ويستفاد منه وضع ما يعم نفعه في المسجد كالماء لشرب من يعطش ويحتمل التفرقة بين ما يوضع للتفرقة وبين ما يوضع للخزن فيمنع الثاني دون الأول وبالله تعالى التوفيق ) .
قلت : ولم يذكر البخاري في هذا الباب حديثا في تعليق القنو مع أنه ترجم له فكأنه أشار بذلك إلى بعض الأحاديث الواردة في ذلك كما يأتي ولم يذكرها وإن كانت صحيحة لأنها ليست على شرطه .
( 31 - تعليق العذق أو العنقود للفقراء فقد ( أمر صلى الله عليه وسلم من كل حائط بقنو للمسجد ) .
الحديث أخرجه الحاكم من طريق سعيد بن أبي مريم : ثنا عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر . . . إلخ . وقال :
( صحيح على شرط مسلم ) .
وهو كما قال وقد أقره الذهبي .
ورواه أيضا الطبراني في ( الأوسط ) . قال الهيثمي :
( ورجاله رجال الصحيح ) . وفي ( الفتح ) :
( أخرجه ثابت ( في الدلائل ) بلفظ : يعلق في المسجد - يعني للمساكين - وفي رواية له : وكان عليها معاذ بن جبل أي : على حفظها أو على قسمتها ) .
وذكر له الحاكم شاهدا من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى ابن حبان عن عمه واسع عن حبان عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة وقال : ( في جاذ كل عشرة أوسق قنو يوضع للمساكين في المسجد ) . وقال :
( إنه صحيح على شرط مسلم ) .
وليس كذلك وإن أقره الذهبي لأن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه ثم إن مسلما لم يحتج به وإنما روى له مقرونا أو متابعة .
( ولذلك ( كانت الأنصار تخرج - إذا كان جذاذ النخل - من حيطانها أقناء البسر فيتعلقونه على حبل بين إسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين . . . الحديث ) .
وتمامه : ( فيعمد أحدهم فيدخل قنوا فيه الحشف يظن أنه جائز في كثرة ما يوضع من الإقناء فنزل فيمن فعل ذلك : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } [ البقرة/267 ] يقول : لا تعمدوا للحشف منه تنفقون { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } [ البقرة/267 ] يقول : لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه غيظا أنه بعث إليكم ما لم يكن لكم فيه حاجة { واعلموا أن الله غني } عن صدقاتكم { حميد } .
أخرجه ابن ماجه والحاكم من طريق أسباط ابن نصر عن السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب في قوله سبحانه : { ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } [ البقرة/267 ] قال . . . . فذكره . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط مسلم ) . ووافقه الذهبي .
وهو كما قالا .
ورواه ابن جرير أيضا وابن مردويه كما في ابن كثير .
( وقال عوف بن مالك الأشجعي : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العصا وفي المسجد أقناء معلقة فيها قنو فيه حشف فغمز القنو بالعصا التي في يده قال : ( لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها إن رب هذه الصدقة ليأكل الحشف يوم القيامة ) .
الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد - والسياق له - عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة الحضرمي عنه .
وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال مسلم غير صالح بن أبي عريب قال الذهبي في ( الميزان ) :
( قال ابن القطان : لا يعرف حاله ولا يعرف من روى عنه غير عبد الحميد ابن جعفر . قلت : بلى روى عنه حيوة بن شريح والليث وابن لهيعة وغيرهم له أحاديث وثقه ابن حبان ) .
قلت : وقد أخرج حديثه هذا في ( صحيحه ) وكذا ابن خزيمة كما في ( الترغيب ) .
قلت : وقد صحح له الحاكم حديثا ووافقه الذهبي في ( تلخيصه ) ولذلك قال الحافظ في ( شرح البخاري ) بعد أن ساق هذا الحديث من طريق النسائي :
( وليس هو على شرطه - يعني البخاري - وإن كان إسناده قويا ) .
وسكت عليه المنذري في ( مختصره ) ثم وجدته في ( المستدرك ) وصححه هو والذهبي .
وفي هذين الحديثين دليل على جواز تعليق القنو - بكسر القاف وسكون النون - وهو العذق وهو العرجون بما فيه . ومثله في الحكم العنقود ونحوه . وقد سبق كلام الحافظ في ذلك في الفصل الماضي وفي ( العمدة ) :
( وقال ابن القاسم : وسئل مالك عن الأقناء في المسجد وما يشبه ذلك فقال : لا بأس بها . وسئل عن الماء الذي يسقى في المسجد أترى أنه يشرب منه ؟ قال : نعم إنما جعل للعطش ولم يرد به أهل المسكنة فلا أرى أنه يترك شربه ولم يزل هذا من أمر الناس ) .
( 32 - السؤال من المحتاج والتصدق عليه لحديث :
( هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا ؟ ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في عبد الرحمن فأخذتها [ منه ] فدفعتها إليه ) .
الحديث أخرجه أبو داود - والزيادة له - والحاكم من طريق مبارك بن فضالة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن أبي بكر مرفوعا . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط مسلم ) . ووافقه الذهبي .
وقد وهما فإن المبارك هذا ليس من رجال مسلم مطلقا وهو صدوق لكنه مدلس وقد عنعن ومع ذلك فقد قال النووي في ( المجموع ) :
( إن إسناده جيد ) . وقال المنذري في ( مختصره ) :
( قال أبو بكر البزار : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن أبي بكر إلا بهذا الإسناد وذكر أنه روي مرسلا ) .
قلت : فهذا المرسل مما يقوي هذا الموصول ثم قال :
( وقد أخرجه مسلم في ( صحيحه ) والنسائي في ( سننه ) من حديث أبي حازم سلمان الأشجعي عن أبي هريرة بنحوه أتم منه ) .
قلت : الحديث في ( صحيح مسلم ) كما ذكر المنذري لكن ليس فيه أن الصدقة كانت في المسجد بل هو مطلق . وأما النسائي فلم أجده في ( سننه الصغرى ) ولا عزاه إليه النابلسي في ( الذخائر ) فالظاهر أنه في ( سننه الكبرى ) وقال السيوطي في رسالة ( بذل العسجد لسؤال المسجد ) من ( الحاوي ) له بعد أن نقل كلام المنذري :
( قلت أخرجه : وأخرجه البخاري في ( أحكام المساجد ) للزركشي ) .
كذا في الأصل وفي العبارة تشويش ظاهر وعلى كل حال فالحديث ليس في البخاري . والله أعلم .
وفي الباب عن ابن عباس قال :
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد وإذا مسكين يسأل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أعطاك أحد شيئا ؟ ) قال : نعم قال : ( من ؟ ) قال : ذاك الرجل القائم . قال : ( على أي حال أعطاكه ؟ ) قال وهو راكع قال : وذلك علي بن أبي طالب قال : فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وهو يقول :
( { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } [ المائدة/56 ] .
وفي بعض الكتب أنه تلا الآية التي قبل هذه وهي : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } .
ولكنه حديث ضعيف أخرجه بهذا اللفظ ابن مردويه في ( تفسيره ) من طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عنه . قال الحافظ ابن كثير :
( وهذا إسناد لا يفرح به : الكلبي متروك ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب نفسه وعمار بن ياسر وأبي رافع وليس يصح منها شيء بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة لرجالها ) . وأما السيوطي فقال في الرسالة المذكورة :
( فهذه طرق لنزول هذه الآية الكريمة في التصدق على السائل في المسجد يشد بعضها بعضا ) .
وما أظن أن هذا صواب لأن كون كثرة الطرق يقوي الحديث ليس على إطلاقه كما هو مذكور في كتب المصطلح بل ذلك مقيد فيما إذا كان في الطرق بعض من في حفظهم ضعف وهم في أنفسهم ثقات لم يتركوا وما أعتقد أن هذه الطرق قد وجد فيها هذا الوصف . أقول هذا وإن لم أقف على رجالها إلا الطريق الأولى ففيها الكلبي وهو متروك فحديثه مطروح لا يعتضد به . والله أعلم . ثم لو أن هذه الطرق يصح أن يقال فيها ما ذهب إليه السيوطي لذكر ذلك ابن كثير نفسه لا سيما وهو أعلم بالحديث وعلله من السيوطي كما لا يخفى .
وبالجملة فالعمدة في هذا الباب على حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه . وفيه دليل على ما ذكرنا من جواز السؤال والتصدق في المسجد وقد ترجم له ببعض ذلك أبو داود حيث قال :
( باب المسألة في المساجد ) .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة فأجاب رحمه الله بما نصه :
( أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحدا بتخطيه رقاب الناس ولا بغير تخطيه ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهرا يضر الناس مثل أن يسأل الخطيب والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علما يشغلهم به ونحو ذلك جاز والله أعلم ) ( فتاوى ) له .
وقال السيوطي في الرسالة السابقة الذكر ما ملخصه :
( السؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه وإعطاء السائل فيه قربة يثاب عليها وليس بمكروه فضلا عن أن يكون حراما . هذا هو المنقول والذي دلت عليه الأحاديث ) .
ثم نقل عن النووي أنه قال :
( لا بأس بأن يعطى السائل في المسجد لهذا الحديث ) . قال السيوطي :
( والحديث الذي أورده فيه دليل للأمرين معا : أن الصدقة عليه ليست مكروهة وأن السؤال في المسجد ليس بمحرم لأنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك بإخبار الصديق ولم ينكره ولو كان حراما لم يقر عليه بل كان يمنع السائل من العود إلى السؤال في المسجد . وبذلك يعرف أن النهي عن السؤال في المسجد - إن ثبت - محمول على الكراهة والتنزيه وهذا صارف له عن الحرمة قال : وما وقع في ( المدخل ) لابن الحاج من حديث : ( من سأل في المساجد فاحرموه ) فإنه لا أصل له وإنما قلنا بالكراهة أخذا من حديث النهي عن نشد الضالة في المسجد وقوله : ( إن المساجد لم تبن لهذا ) .
ويدل على جواز التصدق في المسجد الحديث الآتي أيضا وهو مما فات السيوطي فلم يورده في رسالته بل ولا أشار إليه وهو :
( ودخل رجل المسجد [ في هيئة بذة ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا له ثيابا فطرحوا فأمر له منها بثوبين ثم حث على الصدقة فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح به ( وفي لفظ : ( فانتهره ) وقال : ( خذ ثوبك ) .
الحديث من رواية أبي سعيد الخدري .
أخرجه أبو داود - والسياق له - والنسائي واللفظ الآخر له والطحاوي والحاكم وأحمد من طريق ابن عجلان : ثنا عياض عنه .
وهذا سند حسن . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط مسلم ) . ووافقه الذهي .
وليس كذلك كما سبق التنبيه عليه مرارا . والزيادة لأحمد وكذا النسائي وهو عندهما أتم فيه الأمر بصلاة تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة وهذا القدر منه رواه الترمذي وقد سبق لفظه في الأدب السابع الحديث رقم ( 4 ) فليرجع إليه من شاء .
وفي الباب عن جرير بن عبد الله قال :
كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف . . . فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل وخرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب الناس فقال : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة . . . } إلى آخرالآية : { إن الله كان عليكم رقيبا } [ النساء/1 ] والآية التي في الحشر : { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } [ الحشر/19 ] : تصدق رجل من ديناره . . . الحديث وفيه أن رجلا من الأنصار ابتدأ الصدقة ثم تتابع الناس بعده وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من سن في الإسلام سنة حسنة . . . ) الحديث .
أخرجه مسلم وغيره . راجع تعليقنا على ( الترغيب ) .
( 23 - الكلام المباح أحيانا بحيث أن لا يجعل ذلك ديدنه لقول جابر ابن سمرة رضي الله عنه :
شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة [ في المسجد ] وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم ) .
الحديث أخرجه الترمذي والطيالسي وأحمد من طريق شريك عن سماك عنه . والسياق مع الزيادة لأحمد وقد قرن الطيالسي مع شريك قيس بن الربيع .
فالإسناد حسن بل صحيح فقد قال الترمذي :
( هذا حديث حسن صحيح وقد رواه زهير عن سماك أيضا ) .
قلت : رواية زهير هذه عند مسلم وأحمد بمعناه .
وتابعه عند مسلم أبو خيثمة ولفظه :
كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح والغداة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس قام وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم .
وفي ( الفتاوى ) لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه :
( مسألة في النوم في المسجد والكلام والمشي بالنعال في أماكن الصلاة هل يجوز ذلك أم لا ؟
الجواب : أما النوم أحيانا للمحتاج مثل الغريب والفقير الذي لا مسكن له فجائز وأما اتخاذه مبيتا ومقيلا فينهون عنه وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريما وكذلك المكروه ويكره فيه فضول المباح . وأما المشي بالنعال فجائز كما كان الصحابة يمشون بنعالهم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لكن ينبغي للرجل إذا أتى المسجد أن يفعل ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر في نعله فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور . والله أعلم ) .
قلت : وأما الحديث المشهور على ألسنة الناس والمعلق على جدران كثير من المساجد : ( الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو كما تأكل البهائم الحشيش ) فقال الحافظ العراقي في ( تخريج الإحياء ) :
( لم أقف له على أصل ) . وقال الصغاني في ( موضوعاته ) :
( ومن الأحاديث الموضوعة قولهم : ( من تكلم بكلام الدنيا في المساجد أو في المسجد أحبط الله أعماله أربعين سنة ) ومنها الأحاديث الموضوعة في فضيلة السراج والقناديل والحصير في المسجد لم يثبت منها شيء بل كانت الصحابة يتكلمون في بعض الأحايين في المسجد وينامون فيه أيضا لكن بالأدب التام والحشمة والاحترام وكذا في المقابر وخلف الجنازة ) .
( 34 - الأكل والشرب أحيانا لحديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنه قال :
كنا يوما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة فوضع لنا طعام فأكلنا فأقيمت الصلاة فصلينا ولم نتوضأ . وفي رواية عنه قال :
كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الخبز واللحم ) .
الحديث أخرجه أحمد وكذا ابنه عبد الله فقال : ثني أبي : ثنا هارون - قال أبو عبد الرحمن : وسمعت أنا من هارون - قال : ثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني حيوة بن شريح قال : أخبرني عقبة بن مسلم عنه بالرواية الأولى .
وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال مسلم غير عقبة وهو ثقة .
وأما الرواية الأخرى فأخرجها ابن ماجه فقال : ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب وحرملة بن يحيى قالا : ثنا عبدالله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث : ثني سليمان بن زياد الحضرمي : أنه سمع عبد الله بن الحارث به . قال في ( الزوائد ) :
( إسناده حسن رجاله ثقات ويعقوب مختلف فيه ) .
قلت : وإنما تكلم فيه من قبل حفظه وروايته هذه متابع عليهامن قبل حرملة بن يحيى وهو ثقة فقد صح الحديث عن ابن وهب وبقية الرجال فوقه كلهم ثقات 64 فالحديث صحيح الإسناد والاقتصار على تحسينه قصور .
وقد تابعه ابن لهيعة عن سليمان بن زياد وقال مرة : عن خالد بن أبي عمران وسليمان بن زياد الحضرمي به نحوه .
أخرجه أحمد .
وابن لهيعة سيئ الحفظ فإن كان قد حفظ فللحديث ثلاثة طرق عن عبد الله بن الحارث .
وفي الباب عن ابن عمر :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بفضيخ في مسجد الفضيخ فشربه فلذلك سمي .
أخرجه أحمد : ثنا وكيع ثني عبد الله بن نافع عن أبيه عنه .
ورجاله ثقات رجال الستة غير عبد الله بن نافع وهو ضعيف كما في ( التقريب )
ومن طريقه أخرجه أبو يعلى ولفظه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجر فضيخ بسر وهو في مسجد الفضيخ فشربه فلذلك سمي مسجد الفضيخ . ذكره في ( المجمع ) .
قال الشوكاني ما مختصره :
( والحديث يدل على المطلوب منه وهو جواز الأكل في المسجد وفيه أحاديث كثيرة : منها سكنى أهل الصفة فإن كونهم لا مسكن لهم سواه فيستلزم أكلهم للطعام فيه ومنها ربط الرجل الاسير بسارية من سواري المسجد وفي بعض طرقه أنه استمر مربوطا ثلاثة أيام ومنها ضرب الخيام في المسجد لسعد بن معاذ كما تقدم وللسوداء التي كانت تقم المسجد ومنها إنزال وفد ثقيف المسجد وغيرهم والأحاديث الدالة على جواز أكل الطعام في المسجد متكاثرة ) .
قلت : وكل هذه الأحاديث المشار إليها قد سبق ذكرها في مواطنها اللائق بها في هذا الفصل فلتراجع .
10 - استقبال الكعبة
( 1 - يجب على المصلي أن يتوجه بوجهه وبدنه نحو الكعبة ثبت ذلك بالكتاب والسنة :
( أ ) أما الكتاب فقوله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة/114 ] ) .
( وقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف إلى الكعبة ) .
الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنهما .
أخرجه الإمام أحمد : ثنا يحيى بن حماد : ثنا أبو عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس به .
وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين . وسكت عليه الحافظ في ( الفتح ) وقال الهيثمي في ( المجمع ) :
( رواه أحمد والطبراني في ( الكبير ) والبزار ورجاله رجال ( الصحيح ) .
وقد أخرجه البيهقي من هذا الوجه .
وفيه رد على أبي عمر بن عبد البر حيث اختار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستقبل بيت المقدس وهو في مكة وإنما استقبله حين هاجر إلى المدينة واحتج بحديث البراء الآتي بعد هذا ولا حجة فيه إذ إنه لو لم يصرح بنفي الاستقبال قبل ذلك حتى ولو صرح لم يكن حجة بل لوجب الأخذ بحديث ابن عباس لما فيه من الزيادة والعلم وزيادة الثقة مقبولة ومن علم حجة على من لم يعلم والمثبت مقدم على النافي كل هذه قواعد متفق عليها وقد قيلت في فروع كثيرة كما لا يخفى ذلك على الباحث .
( وفي حديث آخر : ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } فتوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود - : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة/142 ] ) .
هو من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب . . . إلخ .
أخرجه البخاري بهذا السياق 65 وهو عند مسلم والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه والطيالسي وأحمد عنه بنحوه دون قوله : وقال السفهاء . . . إلخ . وقد قال الحافظ في ( الفتح ) تحت قوله : ( وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة ) ما نصه :
( جاء بيان ذلك فيما أخرجه الطبري وغيره من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود - أكثر أهلها - يستقبلون بيت المقدس أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها سبعة عشرة شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت . ومن طريق مجاهد قال : إنما كان يحب أن يتحول إلى الكعبة لأن اليهود قالوا : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا . فنزلت ) .
قلت : سكت الحافظ عن حديث ابن عباس هذا ولعل ذلك لوضوح علته فإن علي بن أبي طلحة هذا صدوق قد يخطيء أرسل عن ابن عباس ولم يره كما قال الحافظ نفسه في ( التقريب ) فالحديث بهذا السياق ضعيف لانقطاعه .
( والحكمة من هذا التحويل إنما هي ابتلاء من الله وامتحان كما بينه عز وجل في قوله : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم } [ البقرة/143 ] .
( ب ) وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته :
( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر . . . الحديث ) .
هو قطعة من الحديث المشهور بحديث المسيء صلاته وهذا من رواية أبي هريرة رضي الله عنه .
أن رجلا دخل المسجد يصلي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد فجاء فسلم عليه فقال له : ( زاد في رواية : وعليك السلام ) ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) فرجع فصلى ثم سلم فقال : ( وعليك [ السلام ] أرجع فصل فإنك لم تصل ) . قال في الثالثة : فأعلمني قال :
( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم أركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) .
أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه والبيهقي من طريق عبد الله بن نمير وأبي أسامة حماد بن أبي أسامة كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد عنه .
ورواه يحيى بن سعيد القطان : ثنا عبيد الله بن عمر : أخبرني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة به . وليس فيه ذكر الاستقبال وزاد في الإسناد :
( عن أبيه ) .
أخرجه البخاري أيضا وكذا مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وأحمد والبيهقي وقال الترمذي :
( إنها أصح من رواية ابن نمير ) .
ومال الحافظ إلى صحة الروايتين وهو الصواب إن شاء الله تعالى .
وللحديث شاهد صحيح من رواية رفاعة بن رافع البدري بنحوه بلفظ :
( إذا قمت تريد الصلاة فتوضأ فأحسن وضوءك ثم استقبل القبلة فكبر . . . ) الحديث .
أخرجه والحاكم وكذا البخاري في ( جزء القراءة من طريق داود بن قيس والنسائي والبخاري والشافعي في ( الأم ) والبيهقي وأحمد عن محمد بن عجلان وأبو داود عن محمد بن عجلان ثلاثتهم عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري قال : ثني أبي عن عم له بدري - وقال محمد بن عمرو : عن رفاعة بن رافع - بهذه القصة .
وهذا سند صحيح على شرط البخاري . وهو في ( المسند ) من طريق محمد بن عمرو عن علي بن يحيى عن رفاعة فأسقط من الإسناد يحيى بن خلاد . وهو رواية للبيهقي .
وقد تابعه هكذا شريك بن أبي نمر عن علي بن يحيى عن عمه رفاعة .
أخرجه الطحاوي في ( شرح المعاني ) وقال البيهقي :
( والصحيح رواية داود بن قيس ومن وافقه ) .
قلت : ومن وافقه سوى من ذكرنا : إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عند أبي داود النسائي والبخاري في ( جزئه ) والدارمي والحاكم ومن طريقه البيهقي وابن حزم في ( الملحى ) وقال الحاكم :
( صحيح على شرط الشيخين ) .
قلت : علي بن يحيى ووالده لم يخرج لهما مسلم شيئا فهو على شرط البخاري وحده .
ومنهم يحيى بن علي بن خلاد عند أبي داود والنسائي والترمذي وحسنه والطحاوي والحاكم والطيالسي ومحمد ابن إسحاق عند أبي داود وعنه البيهقي والحاكم كل هؤلاء رووه عن علي بن يحيى عن أبيه عن عمه رفاعة ولكن ليس عند هؤلاء الثلاثة الآخرين ذكر استقبال القبلة ولا يخفى أن هذا غير ضائر بعد ثبوتها من طرق الأولين وفي حديث أبي هريرة أيضا .
وحديث رفاعة هذا قد اختلف الرواة فيه اختلافا كثيرا زيادة ونقصا فيجب تتبع ذلك والأخذ بالزائد من الطريق الثابت . وسنشير إلى الزوائد الواردة فيه في كل مناسبة وفرصة تسنح لنا ولعلنا نجمع ذلك كله في موضع واحد ثم نحيل عليه عندما يقتضي الأمر . والله الموفق .
( [ وقال في آخره : فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك ] ) .
هذه الزيادة تفرد بها أبو داود في رواية له من حديث أبي هريرة وإسنادها صحيح على شرط البخاري وهي ثابتة في حديث رفاعة بن رافع .
وهذا الحديث - كالآية يدل على وجوب استقبال القبلة في الصلاة وقد نقل الشوكاني وغيره إجماع المسلمين على ذلك إلا في حالتين سيأتي ذكرهما . قال الشوكاني :
( وقالت الهادوية : إن استقبال القبلة من شروط صحة الصلاة وقد عرفناك فيما سبق أن الأوامر بمجردها لا تصلح للاستدلال بها على الشرطية إلا على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ولكن ههنا ما يمنع من الشرطية وهو خبر السرية الذي أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني من حديث عامر بن ربيعة بلفظ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة وصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل : { فأينما تولوا فثم وجه الله } [ البقرة/115 ] فإن الاستقبال لو كان شرطا لوجبت الإعادة في الوقت وبعده لأن الشرط يؤثر عدمه في العدم مع أن الهادوية يوافقوننا في عدم الوجوب الإعادة بعد الوقت وهو يناقض قوله : إن الاستقبال شرط . وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين ولكن له شواهد تقويه ) .
قلت : ثم ذكرها وستأتي . ثم قال :
( وفي حديث معاذ التصريح بأن ذلك كان بعد الفراغ من الصلاة قبل انقضاء الوقت وهو أصرح في الدلالة على الشرطية وفيها أيضا رد لمذهب من فرق في وجوب الإعادة بين بقاء الوقت وعدمه ) 66 .
( 3 - ويجب على من كان مشاهدا للكعبة أو في حكم المشاهد لها أن يستقبل عينها ل ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها . . . فلما خرج ركع في قبل البيت ( وفي رواية مستقبل وجه الكعبة ) ( وفي أخرى : عند باب البيت ) ركعتين وقال : هذه القبلة [ هذه القبلة ] ) ] .
الحديث من رواية أسامة بن بن زيد رضي الله عنهما وقد اختصرنا منه جملة : ( ولم يصل فيه ) لأنه ثبت من طريق غيره من الصحابة أنه عليه السلام صلى فيه كما سبق بيانه قبيل ( أحكام المساجد ) .
والحديث هذا أخرجه البخاري ومسلم - والسياق له - والنسائي وأحمد من طريق ابن جريج قال :
قلت لعطاء : أسمعت ابن عباس يقول : إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله ؟ قال :
لم يكن ينهى عن دخوله ولكن سمعته يقول : أخبرني أسامة به .
والرواية الثانية مع الزيادة هي من حديث عبد الملك بن أبي سليمان قال : ثنا عطاء به نحوه .
أخرجه النسائي وأحمد .
وإسناده صحيح على شرط مسلم .
وأما الرواية الثالثة فهي من حديث ابن عباس أيضا :
أن الفضل بن عباس أخبره أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم البيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في البيت حين دخله ولكنه لما خرج فنزل ركع ركعتين عند باب البيت .
أخرجه أحمد : ثنا عبد الرزاق : ثنا ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أن ابن عباس كان يخبره به .
وهذا سند صحيح على شرط الستة .
وفي الباب عن ابن عمر أيضا عند البخاري وغيره من طريق مجاهد عنه . وقد سبق لفظه في المكان المشار إليه آنفا .
قال النووي رحمه الله في ( شرح المهذب ) :
( وقوله صلى الله عليه وسلم : ( هذه القبلة ) . قال الخطابي : معناه : أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم فصلوا إليه أبدا فهو قبلتكم . قال : ويحتمل أنه علمهم سنة موقف الإمام وأنه يقف في وجهها دون أركانها وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة . هذا كلام الخطابي . ويحتمل معنى ثالثا وهو أن معناه : هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لا كل الحرم ولا مكة ولا المسجد الذي حول الكعبة بل هي الكعبة نفسها فقط ) . قال الحافظ في ( التلخيص ) بعد أن ذكر هذا الاحتمال عن النووي :
( وهو أحتمال حسن بديع ) .
وأما الاحتمال المذكور عن الخطابي فقد نقله الشيخ علي القاري في ( المرقاة ) عن قول الطيبي ولعله أخذه عن الخطابي ثم تعقبه القاري بقوله :
( قلت : هذا إنما يتم في الجملة لو كان صلى صلاة فرض جماعة ) .
وهو تعقب قوي كما ترى فلم يبق إلا المعنى الأول والاحتمال الذي قاله النووي وهو المتبادر لنا من الحديث . والله أعلم .
وقد نقل غير واحد الاتفاق على وجوب استقبال عين الكعبة للمشاهد ففي ( تفسير القرطبي ) :
( لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له وعليه إعادة كل ما صلى . ذكره أبو عمر ) .
وقال ابن حزم :
( ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن امرءا لو كان بمكة بحيث يقدر على استقبال الكعبة في صلاته فصرف وجهه عامدا عنها إلى أبعاض المسجد الحرام من خارجه أو من داخله فإن صلاته باطلة 67 وأنه إن استجاز ذلك كافر . قال : وأما المريض والجاهل والخائف والمكره فإن الله تعالى يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [ البقرة/286 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
وقد اتفقت كلمة ابن حزم وأبي عمر بن عبد البر على نقل الإجماع في بطلان صلاة من ترك استقبال الكعبة عمدا . وقد سبق الكلام على ذلك قبيل هذا الحديث الذي كنا بصدد الكلام حوله .
( وأما من كان غير مشاهد لها ولم يعرف موضعها فيكفيه أن يستقبل الجهة التي هي فيها لقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله عليه الصلاة والسلام : ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) .
الحديث من رواية أبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
أما الأول فأخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق أبي معشر نجيح عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه مرفوعا به .
وأبو معشر ضعيف قال الترمذي :
( وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه ) .
قلت : لكنه يقوى بمتابعة غيره له بإسناد آخر فقال الترمذي : ثنا الحسن بن أبي بكر المروزي : ثنا المعلى بن المنصور : ثنا عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد الأخنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا به . وقال :
( حديث حسن صحيح ) . قال البخاري :
( هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح ) .
قلت : ورجاله ثقات غير شيخ الترمذي : الحسن بن أبي بكر . كذا هو في ( السنن ) حتى في النسخة التي صححها أحمد شاكر القاضي وهو خطأ والصواب : الحسن بن بكر بحذف لفظة ( أبي ) كذلك هو في كتب الرجال ك ( التهذيب ) و( التقريب ) و( الخلاصة ) .
وهو الحسن بن بكر بن عبد الرحمن المروزي أبو علي نزيل مكة وقال مسلمة : ( مجهول ) كما في ( التقريب ) .
وذكر فيه جمعا من الثقات رووا عنه وكأنه لذلك قال في ( التقريب ) :
( إنه صدوق ) .
والله أعلم .
وبالجملة فالحديث بهذين الطريقين حسن وهو صحيح بشاهده وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما . وله طريقان أيضا :
الأول : عن يزيد بن هارون : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن المجبر عن نافع عنه مرفوعا به .
أخرجه الدارقطني والحاكم وعنه البيهقي وقال الحاكم :
( صحيح وابن مجبر ثقة ) . ووافقه الذهبي .
وهو عجيب منه فإنه قد أورد في ( الميزان ) ابن مجبر هذا ونقل أقوال الأئمة في تضعيفه ولم يحك ولا قولا واحدا في توثيقه وأقره الحافظ في ( اللسان ) وذلك يدل على أنه ضعيف اتفاقا وأن توثيق الحاكم له مما لا يعتد به .
لكن قد تابعه عبيد الله بن عمر عن نافع به .
أخرجه الدارقطني وعنه الضياء المقدسي في ( المختارة ) والحاكم وعنه البيهقي من طريق أبي يوسف يعقوب بن يوسف الواسطي : ثنا شعيب ابن أيوب : ثنا عبدالله بن نمير عن عبيد الله بن عمر به . وقال الحاكم :
( صحيح على شرط الشيخين فإن شعيب بن أيوب ثقة وقد أسنده ) . ووافقه الذهبي أيضا .
قلت : ولكن شعيبا لم يخرج له أحد الشيخين وإنما هو من رجال أبي داود فقط وهو صدوق يدلس كما في ( التقريب ) وقد صرح بالتحديث كما ترى فالإسناد صحيح إن كان الراوي عنه يعقوب بن يوسف الواسطي ثقة فإني لم أجد له ذكرا في كتب الرجال التي عندي . وقد قال البيهقي بعد أن ساقه من الطريقين :
( تفرد بالأول ابن مجبر وتفرد بالثاني يعقوب بن يوسف الخلال والمشهور رواية الجماعة حماد بن سلمة وزائدة بن قدامة ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر من قوله . قال : وروي عن أبي هريرة مرفوعا وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ) .
قلت : فهذا شاهد أخر مرسل .
ثم قال البيهقي :
( والمراد به - والله أعلم - أهل المدينة ومن كانت قبلته على سمت من أهل المدينة فيما بين المشرق والمغرب وذلك ينطبق على من كان في الشمال والجنوب وأما من كان في الشرق والغرب فقبلته ما بين الشمال والجنوب ) .
وقال الصنعاني في ( سبل السلام ) :
( والحديث دليل على أن الواجب استبقال الجهة لا العين في حق من تعذر عليه العين وقد ذهب إليه جماعة من العلماء لهذا الحديث ) .
قلت : وعليه علماؤنا الحنفية قال في ( المجموع ) :
( وحكاه الترمذي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وابن المبارك ) .
وقد نقل القرطبي في ( تفسيره ) إجماع العلماء على ذلك وفيه نظر فقد ذكر النووي أن الصحيح عند الشافعية أن الواجب إصابة عين الكعبة . قال :
( وبه قال بعض المالكية ورواية عن أحمد ) .
قلت : وهذا مخالف للمنقول عن الصحابة ولهذا الحديث . ثم قال الصنعاني :
( ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين ومن في حكمه لأن المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب بل في كل الجهات في حقه سواء متى قابلت العين أو شطرها ) .
وقال العلامة أبو الطيب صديق حسن في ( الروضة الندية ) ما نصه :
( أقول : استقبال القبلة هو من ضروريات الدين فمن أمكنه استقبال القبلة تحقيقا فذلك الواجب عليه مثل القاطن حولها المشاهد لها من دون قطع مسافة ولا تجشم مشقة ومن لم يكن كذلك ففرضه استقبال الجهة وليس المراد من تلك الجهة الكعبة على الخصوص بل المراد ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من كون بين المشرق والمغرب قبلة فمن كان في جهات اليمن وعرف جهة المشرق وجهة المغرب توجه بين الجهتين فإن تلك الجهة هي القبلة وكذلك من كان بجهة الشام يتوجه بين الجهتين من دون إتعاب للنفس في تقدير الجهات فإن ذلك . . .
( 1 ) ونقله أيضا أبو الطيب وغيره كما في ( المجموع ) ( 3/207 ) ومن مثل هذا النقل تعلم تساهل بعض العلماء في دعوى الإجماع في مسائل مختلف فيها كهذه المسألة .
وهذا آخر ما كتبه الشيخ - رحمه الله - من كتاب ( الثمر المستطاب ) ] .
والحمد لله رب العالمين .


40 ( 1 ) ثم تبين لي أنه ليس به بل هو دينار الخزاعي المدني وهو من رجال مسلم ثقة يرسل كما في ( التقريب ) .

41 ( 1 ) أي المناوي في ( فيض القدير ) . ( الناشر ) .

42 ( 1 ) وكذلك رواه أحمد مرة عن ابن مهدي ( 2/236 ) .

43 ( 1 ) ثم وجدت الحديث في ( المسند ) ( 3/64 ) من الطريق الأولى قال : ثنا عبد الواحد بن زياد : ثنا إسحا بن شرقي مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال : ثني أبو سعيد الخدري مرفوعا بلفظ : ( ما بين قبري ومنبري ) .

44 ( 1 ) قال القرطبي : ( الرواية الصحيحة : ( بيتي ) ويروى ( قبري ) وكأنه بالمعنى لأنه دفن في بيت سكناه ) ذكره في ( الفتح ) ( 3/54 ) .

45 ( 1 ) كذا في الأصل ولعله تصحيف من بعض الرواة والصواب : ( لا ينبغي للمطي أن تشد ) كما في ( المسند ) وغيره كما سبق .

46 ( 1 ) نقلته من ( الفتاوى ) لشيخ الإسلام ( 1/119 - 120 ) .

47 ( 1 ) وأذكر أنني قرأت عن بعض العلماء أنه ذهب إلى أن المراد من قوله في الحديث : ( كل سبت ) أي كل أسبوع وأنه ليس المراد يوم السبت نفسه وقد احتج لذلك من اللغة بما لا أستحضره ولا أذكر الآن في أي كتاب قرأت ذلك فمن وجده فليكتب فإذا صح ذلك فلا دلالة حينئذ في الحديث على التخصيص قط . ثم وقفت على من ذكر ذلك وهو الإمام أبو شامة الشافعي في كتابه ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ) وقد ذكر فيه ما يوافق ما ذهبنا إله من عدم جواز التخصيص وإليك كلامه في ذلك كله قال رحمه الله ( ص 34 ) :
( ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصها بها الشرع بل يكون جميع أنواع البر مرسلة في جميع الأزمان ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع وخصه بنوع من العبادة فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها كصوم يوم عرفة وعاشوراء والصلاة في جوف الليل والعمرة في رمضان ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلا فيه جميع أعمال البر كعشر ذي الحجة وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حضل فيها كان له الفضل على نظيره في زمن آخر . فالحاصل أن المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع وهذه كانت صفة عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ) .
ثم ساق حديث ( الصحيحين ) عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : لا يفطر ويفطر حتى نقول : لا يصوم . وحديث علقمة قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص من الأيام شيئا ؟ قالت : لا كان عمله ديمة . ثم قال :
( قال محمد بن سلمة : ولا يؤتى شيء من المساجد يعتقد فيه الفضل بعد المساجد الثلاثة إلا مسجد قباء قال : وكره أن يعد له يوما بعينه فيؤتى فيه خوفا من البدعة وأن يطول بالناس زمان فيجعل ذلك عيدا يعتمد أو فريضة تؤخذ ولا بأس أن يؤتى كل حين ما لم تجئ فيه بدعة . قلت : وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت . ولكن معنى هذا انه كان يزوره في كل أسبوع وعبر بالسبت عن الأسبوع كما يعبر عنه بالجمعة ونظيره ما في ( الصحيحين ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجعة قال فيه : فلا والله ما رأينا الشمس سبتا . والله أعلم ) .
48 ( 1 ) وفي ( بلوغ المرام ) ونص كلامه فيه : ( رواه أبو داود والترمذي واستغربه وصححه ابن خزيمة ) .

49 ( 1 ) وفي الباب عن جابر بن عبد الله : قال عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت :
أتينا جابرا وهو في مسجده فقال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب فنظر فرأى في قبلة المسجد نخامة فاقبل عليها فحتها بالعرجون ثم قال :
( أيكم يحب أن يعرض الله عنه ) ثم قال :
( إن أحدكم إذا قام يصلي . . . ) الحديث . وفيه :
ثم قال : أروني عبيرا فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخلوق في راحته فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة .
قال جابر : فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم .
أخرجه مسلم ( 8/232 ) وأبو داود ( 1/78 - 79 ) والبيهقي ( 2/294 ) وسيأتي في ( المناهي ) فقرة ( 10 ) الحديث الرابع الطريق الأولى .
50 ( 1 ) ثم رأيت البيهقي صرح بذلك فقال : ( 2/294 ) بعد أن ساق الحديث من هذا الوجه : ( وهذا مرسل حسن في مثل هذا ) .

51 ( 1 ) كذا في القرطبي ولعل الصواب : والد سعيد . فإنك ترى أن زبان اسم أبيه وقد ذكر الحافظ عبد الغني بن سعيد في ( المؤتلف والمختلف ) ( ص 59 ) أن زبان بن قائد يكنى أبا جوين حمراوي .

52 ( 1 ) أورده ابن القيم في ( جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام ) ( ص 52 ) .

53 ( 1 ) وقد روى أحمد في ( الزهد ) عن ميمون بن مهران ( وهو تابعي فقيه مات سنة ( 117 ) أنه كان يقول : ( تحية المسجد إذا دخلت أن تركع ركعتين ) . قال النجم : ( وهذا الكلام يجري على ألسنة الفقهاء . ومن العجب أن بعض المتفقهين في العصر زعم أنه لا يقال تحية المسجد مع ورود مثل ذلك وجريانة على ألسنة الفقهاء قديما وحديثا ) كذا في ( كشف الخفاء ) ( 1/299 ) .

54 ( 1 ) وله عنده طريق رابعة عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عنه . وفيه بعد : ( اركع ركعتين : ولا تعد لمثل هذا ) وهذا إسناد رجاله ثقات لكن ابن إسحاق مدلس وقد عنعن وبهذه الزيادة رواه ابن حبان في ( صحيحه ) وقال : ( يريد الإبطاء لا الصلاة ) كما في ( نصب الراية ) ( 2/203 ) .

55 ( 1 ) ورواه أحمد ( 3/380 ) عن عبد الرزاق : أنا ابن جريج به .

56 ( 1 ) كان من عادتهم إذا جاع أحدهم أن يشد جوفه بعصابة وربما جعل تحتها حجرا . ( نهاية ) .

57 ( 1 ) وكذا وقع في ( التعجيل ) وقد ذكره في شيوخ الحكم بن طهمان .

58 ( 1 ) إلا أنه قد يقال : إنه يجوز منع المجذوم لا لعلة الرائحة بل لأن داءه يعدي فيضر المصلي وهو مأمور بالابتعاد عنه بقوله عليه الصلاة والسلام : ( فر من المجذوم فرارك من الأسد ) . ولما كان تطبيق هذا الأمر يستلزم ابتعاد المصلين جميعا أو بعضهم عن المسجد وتعطيل صلاة الجماعة أو تقليلها ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة ولذلك يقتضي أن يمنع المجذوم من هذه الوجهة ويلحق به كل من به داء معد . والله أعلم .

59 ( 1 ) ثم تحقق ما استظهرته فقد عثرت على الحديث في ( تخريج الكشاف ) للحافظ ابن حجر فقال ( ص 73 رقم 94 ) : ( رواه الطبراني من رواية أبي وائل عن ابن مسعود رفعه : ( سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا مناهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة ) وفيه بزيع أبو الخليل راويه عن الأعمش عنه وهو متروك . وقال الدارقطني : إنه تفرد به وفيه نظر فقد أخرجه ابن حبان في ( صحيحه ) من طريق عيسى بن يونس عن الأعمش بلفظ : . . . قلت فذكره . قال : وفي الباب عن أنس رفعه .
قلت : فساقه من طريق الحاكم وسكت عليه .

60 ( 1 ) ( فائدة ) : وأما الحديث الذي أخرجه ابن السني في ( عمل اليوم والليلة ) ( ص 53 رقم 150 ) من طريق عباد بن كثير عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن جده ثوبان مرفوعا بلفظ : ( من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا : فض الله فاك ثلاث مرات ) فإنه ضعيف الإسناد عباد بن كثير هو الرملي الفلسطيني ( ضعيف ) كما في ( التقريب ) . وعبد الرحمن بن ثوبان لم أجد من ترجمه . وقد رواه غير عباد بن كثير عن يزيد فخالفه في متنه وسنده كما يأتي .

61 ( 1 ) ورواه أيضا النسائي ( 2/283 ) وأحمد ( 2/304 ) .

62 ( 1 ) وأخرجه البيهقي ( 2/442 - 443 ) وزاد : إلا لمحمد وآل محمد . وأشار إلى ضعف الحديث .
63 ( 1 ) ثم رأيت ابن كثير قال في ( التفسير ) ( 1/501 ) : ( إنه حديث ضعيف لا يثبت سالم هذا متروك وشيخه عطية ضعيف ) .

64 ( 1 ) وقول الشوكاني في ( النيل ) ( 2/137 ) : ( وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح إلا يعقوب ابن حميد وقد رواه معه حرملة بن يحيى ) ليس بصحيح بل كان يجب أن يستثني مع يعقوب سليمان بن زياد الحضرمي فإنه ليس من رجال الصحيح أيضا .

65 ( 1 ) وكذلك أخرجه البيهقي ( 2/2 ) .

66 ( 1 ) قلت : قد نقل غير واحد الإجماع على بطلان صلاة من تعمد ترك استقبال الكعبة ومنهم ابن حزم وابن عبد البر أبو عمر كما سيأتي نص كلامهما في ذلك في شرح الحديث الآتي فإن صح هذا الإجماع وجب المصير إليه ولا يكون مخالفا للحديث الذي احتج به الشوكاني على عدم الشرطية وذلك لأنه وارد في غير مورد النزاع - أعني : في غير المتعمد - فهو يدل على صحة صلاته والإجماع المذكور يدل على بطلانها من المتعمد فلا خلاف ولا تعارض . وقد جزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ( اختياراته ) ( ص 27 - 28 ) في غير ما مسألة ببطلان صلاة من لم يستقبل الكعبة وهو حتما يعني به المتعمد وأما غيره فمحل نظر .
على أنني لا أكاد أتصور مسلما يعلم وجوب الاستقبال ثم يتركه عمدا لأن من يتعمد ترك شيء إنما يتركه عادة لما فيه من الجهاد ومحاربة هوى النفس ولا شيء من ذلك هنا لأن المصلي لا مناص من أن يستقبل شيئا ما فما الذي يدفعه ويحمله على ترك استقبال الكعبة وهي بين يديه يراها هذا أمر أكاد أجزم باستحالة وقوعه من المسلم العالم بالحكم . والله أعلم .

67 ( 1 ) في أصل الشيخ رحمه الله و( المحلى ) : ( باطل ) ( الناشر ) .


 



 

لسان العرب فصل الغين المعجمة غبأ:

  لسان العرب فصل الغين المعجمة غبأ:   غَبَأَ لَهُ يَغْبَأُ غَبْأً: قَصَدَ، وَلَمْ يَعْرِفْهَا الرِّياشي بالغين المعجمة . غرقأ: الغِرقئُ:...